IMLebanon

لحظة اختلاط الحابل بالنابل داخلياً وخارجياً

 

ذات مرّة كان التموقع في السياسة يفترض التمييز بين تناقض رئيسي وتناقضات ثانوية. خصمك الأساسي، وفقاً لهذا الافتراض، هو من يفصل ويحكم بينه وبينك التناقض الرئيسي. وحلفاؤك المفترضون من يفصل بينك وبينهم تناقضات ثانوية تنجح في تكييفها. تخسر حين تصرفك التناقضات الثانوية عن التناقض الرئيسي، أو حين يتمكن الخصم من محاصرتك بكل أنواع التناقضات. وربما تربح اذا أرحت نفسك من المتناقضين ثانوياً معك، ومكّنك الظرف من هذا، قبل أن تنصرف لمواجهة خصمك الأساسي دون قلق من أن تفتح عليك نيران أخرى، أو تشتّت تركيزك.

حتى نهاية الحرب الباردة، كان كل نظام حكم في العالم، بل كل حزب، بل كل سياسيّ، بل كل نفر، بإمكانه أن يحدّد نفسه وفقاً لهذه اللعبة: تمييز التناقض الرئيسي من التناقضات الثانوية. صحيحٌ أنّ تمييز التناقضات طبعَ الثقافة الأيديولوجية اليسارية على نحو خاص، لكن كل امرئ في العالم كان يفعل ذلك، في لغته وضمن نطاقه، وبحسب مراده، وأسلوب ادراكه لمصالحه. 

اليوم؟ يبدو الركون الى هذه اللعبة أصعب بكثير مما سبق. وانها لرمزية تماماً ان تعبّر زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبين عن دعمها مثلاً لليسار الراديكالي اليوناني في الانتخابات الراهنة. هل اختلط الحابل بالنابل الى هذا الحد؟ علماً ان موقفها هذا أتى مباشرة بعد مقتلة «شارلي ايبدو»، حين راجت نغمة أن التناقض الرئيسي للحرّية في عالم اليوم هو مع «الاسلام الراديكالي»!

في أيام الحرب الباردة لم يكن الحديث عن «العولمة» قد تفشّى بعد. لكن الناس كانوا «مواطني العالم» بجدارة كونهم ينحازون ايديولوجياً الى أحد جبّارين، مع أنهم يستعرضون التناقض الثانوي الذي يفصلهم عمّن ينحازون عنه. كان يمكنك أن تجد مثلاً من لا يعجبه حجب الحرّيات في الاتحاد السوفياتي ولا الأيديولوجيا الشيوعية، لكنه أقرب الى موسكو لموقفها الايجابي تجاه حركات التحرر الوطني في العالم الثالث. وكان يمكنك أن تجد من لا يعجبه موقف أميركا في فيتنام أو في دعمها لإسرائيل لكنه يعطي الأولوية لسد المنافذ أمام التوتاليتارية السوفياتية على ما عدا ذلك. كان هناك من ينتقل من هذا الموقع الى ذاك. كان الجميع «مواطني العالم» لأن العالم كان يبدو أكثر ثباتاً. اليوم العالم انفتح على بعضه البعض بشكل اضمحلت فيه أي شبهة ثبات، وصعب فيه تمييز التناقض الرئيسي من الثانوي، الا من باب المفاضلة الرمزية والعاطفية حيناً، والمفاضلة النفعية العابرة حيناً آخر. 

ندخل في الخارطة العربية. عندما اندلعت الثورات الربيعية انفجر التناقض بين الجماهير الشعبية الثائرة وبين مجموعة من الأنظمة التي تكابر على انتهاء الصلاحية. وقتها بدت لعبة «تناقض رئيسي نميّزه عن التناقضات الثانوية» صالحة من جديد. لكنها كانت كذلك الى حين، ثم صارت الأرض تزحل. طبعاً، اذا كنت صادقاً مع نفسك، فالفاتورة الدموية للنظام السوريّ كفيلة لوحدها لتجعلك متضامناً مع ثورة الشعب السوري، لكن، هل ما زالت الاستكانة الى منطق التمييز بين تناقض رئيسي وتناقضات ثانوية ممكنة عندما يتعلّق الأمر بالموقف من تنظيم «الدولة الاسلامية» أو من جبهة «النصرة«؟ 

كذلك الأمر حين يتعلّق الأمر بالتحدّيات التي تواجه لبنان. مرّ وقت بدا فيه التناقض بين «الآذارين« رئيسياً، وكل امرئ يهوّن على نفسه التناقضات الثانوية، بالنظر الى التناقض الرئيسي. طبعاً، هنا أيضاً فيصل التفرقة الواجب والمستمر، سيبقى الموقف الداعم لمعرفة من قتل شهداء الاستقلال الثاني للبنان. لكن، اين تناقضك الرئيسي من تناقضاتك الثانوية في وقت يعيش فيه البلد تجربة شغور رئاسي مستفحل، وحكومة مريحة لجميع أركانها، وحوار داخلي بطيء في وقت يعمّ فيه قلق عربي كبير بعد استيلاء الحوثيين على صنعاء، وقلق داخلي كبير ايضاً بعد غارة القنيطرة، ولا يقلّل منه رجحان كفّة بقاء الحال على ما هي عليه في معظم التحليلات المحلية؟ 

قبل سنوات، كان الممانعون يقولون ان تناقضهم الرئيسي هو مع اسرائيل، ثم صار تناقضهم الرئيسي مع «الارهاب»، وها انهم عادوا اليوم للجمع بين الاثنين. وأخصام الممانعين، هل ان تناقضهم الرئيسي هو مع الهيمنة الايرانية على المنطقة، ام مع «الارهاب»؟ سهل القول «هذا وذاك«. سهل القول «ما عادت هناك تناقضات رئيسية». الأصعب أن نفهم ما نحن عليه.