لا إميل لحود بعد إميل لحود: يدرك «حزب الله» ذلك ليس من الآن أو من أمس قريب، بل من سنوات طويلة، ولأجل ذلك كان الفراغ الرئاسي بالنسبة إليه بمثابة أمر ثمين، ليس فقط لفتح الطريق لتعديلات على طبيعة النظام السياسي، بل أيضاً لشعوره المتعاظم منذ انتهاء العهد الممدّد له لإميل لحود بأن لا لحود بعد لحود. هذه كانت أساساً علّة التمديد للحود، والعلّة لم تنقضِ بانتهاء ولايته الممدّدة.
الفراغ كان شكلاً من أشكال التعويض عن امتناع تكرار ظاهرة اميل لحود، بما يعادلها، رغم ازدياد الترسانة الصاروخية للحزب، واستفحال نزعته التغلبية، وانعدام التوازن بين قوته الأمنية وحجمه التعبوي، وبين معسكر أخصامه، بل بروز التناقضات في معسكر أخصامه، الى حد جعلهم يؤيدون حليفين للحزب، والحزب يفضّل الفراغ على حليفيه، تاركاً لأخصامه الإجماع في نهاية الأمر على حليف بعينه له.
صحيح أن المناوئين للحزب كانوا يقيسون أفضلياتهم الرئيسية بمدى الابتعاد عن هذا النموذج الأقصى لرئيس ممانع يعطي الأولوية للحزب الخميني، وعموم خط الممانعة الإيرانية ـــ السورية، على الدولة من ناحية، والتركيبة اللبنانية ككل من ناحية ثانية، قبل أن تدفع بهم الواقعية السياسية، والفاتورة السياسية والاقتصادية الباهظة والمتصاعدة للفراغ الى تزكية خيار انتخاب العماد ميشال عون، لكن الحزب نفسه كان يدرك أكثر من سواه انتفاء مجال تكرار الظاهرة اللحودية بالشكل الانسيابي، اللازم له والمطلوب، وأن أي تعبئة للفراغ، على أي مرشّح رست، ستسبّب له متاعب يعتقد هو أنه في غنى عنها في الوقت الذي يراكم فيه تجربة حرب استنزاف واسعة بسوريا.
لكن ما حدث مع تعبئة الفراغ تجاوز حدّ «لا إميل لحود بعد إميل لحود» ليتخذ منحى آخر أثار حفيظة الحزب جدياً. ليس لأن الرئيس ميشال عون والتيار «الوطني الحر» قد بدّلا في الرأي حول ما هو حادث في الإقليم، بل لأن الشعور، مسيحياً، بحيز من الاقتدار بعد وصول عون، والارتياح، مسيحياً وإسلامياً، للمناخ العام لخطاب القسم، والمصطلحات والتخريجات المعتمدة فيه، وحاجة العهد إلى الإقلاع من دون تعطيل مسبق له، ومن دون تأخير لحكومته الأولى، وحاجته إلى تكريس منطلق سياسة لبنان الخارجية المستقلة، وتلاقي هذه الحاجة مع حركة عربية إيجابية تجاهه، كل هذا أثار حفيظة الحزب تجاه من هم حتى الساعة، وسيبقون الى فترة من دون أدنى شك، حلفاء له في الاعتبارات الإقليمية العامة، وخصوصاً تجاه الأزمة السورية.
لكن أن تلتقي مع الحزب في النظرة للحرب السورية، بخلاف الخلاف الكبير بين الحزب وبين المناوئين لاستمرار النظام السوري، فهذا ليس كافياً لدى هذا الحزب! وأن ينتهج العهد سياسة تواصلية جدية مع المدى الإقليمي، وأن يأخذ على محمل الجدة موقع الرئاسة، وأن ينطلق من قاعدته الشعبية كطاقة إيجابية مساندة، وأن يحظى بقاعدة التفاف حوله واسعة، ومتجاوزة لاصطفافات الأعوام السابقة، فكل هذا لم يكن من اليسير للحزب المسلح قبوله، وها هو يواصل عراضات سلبيته تجاه هذا المناخ، ويحاول الربط بين ما يهجس به هو وبين ترتيب آخر للأشياء والاعتبارات يميز موقف الرئيس نبيه بري.
وهنا أيضاً يقع التحدي: كيفية التمييز بين اعتبارات «حزب الله» وبين اعتبارات الرئيس بري فيه مصلحة أكيدة للإقلاع المؤسساتي.
وتلطّي الحزب وراء رئيس المجلس ينبغي أن لا يمرّ كما لو أنه معطى تماثلي مطلق بين الموقعين. الوضع اللبناني الحالي يشير الى اتضاح غرابة قوية بين «حزب الله» من جهة وبين سائر المكونات السياسية والأهلية اللبنانية من جهة ثانية.
عدم رؤية الفارق العميق بين موقف الحزب وبين موقف الرئيس بري وحركة «أمل» يعطي للحزب فرصة أو مجالاً للتستر على هذه الغرابة التي باتت تظهره في ناحية، وكل المجموع اللبناني على اختلاف مواقفه من القضايا الداخلية والخارجية، وعلى خلافاته حول نسب المشاركة في السلطة وفي الإدارة، من ناحية أخرى.
التحدي مركّب، أو مزدوج إذاً: توسيع وتيرة وإطار الالتفاف، حول العناوين النهوضية والاستقلالية لخطاب القسم، بدءاً من تسهيل تشكيل حكومة العهد الأولى، وسيرها باتجاه ورشة قانون الانتخاب، فاستحقاق الانتخاب، رغم كل العراضات السلبية من «حزب الله» وبعض ما يحرّكه من ظواهر ومظاهر مرئية أو مكتوبة. وفي الوقت نفسه، ضرورة التمييز بين موقف الحزب وموقف الحركة ورئيس المجلس حتى في اللحظة الذي يشدّد فيها الحزب على التماثل الكلي بين الموقفين.
إذا كانت مشكلة الحركة ورئيس المجلس متصلة بكيفية المشاركة في السلطة الإجرائية، وفي الإدارة، وفي آلية الإعداد لقانون الانتخاب، فإن مشكلة «حزب الله» مختلفة الى حد كبير. لا يستطيع الحزب – حتى إشعار آخر – تحمّل علاقات جيدة بين لبنان وبين البلدان العربية المناوئة لإيران، ولا علاقات «غير لحودية» مع «المجتمع الدولي»، ولا يستطيع تحمّل «إعلان النيّات» بين «التيار العوني» و»القوات»، ولا تحمّل التغير في خطاب وسياسة «التيار العوني» تجاه الطائفة السنية. كي يستطيع تحمّل كل هذا على الحزب أن يعدّل في أدائه وخطابه، وهو منذ وقت طويل يعتبر نفسه في منأى عن هكذا تعديل.
هل يمكن الإقلاع بتشكيلة حكومية في مثل هذا الجو؟ لا تزال «النعم» أوفر حظاً رغم كل العراضات والصعوبات، لكن هذه «النعم» متعلقة أيضاً بحُسن الربط بين اتجاهين: اتجاه ضاغط للإسراع في التشكيل، واعتبار أن «حق النقض» المعرقل للتشكيل لفترة طويلة مرفوض – وكان البطريرك بشارة الراعي شدد على هذه النقطة، واتجاه ساعٍ بما أوتي من قدرة على اجتراح المبادرات وتدوير الزوايا من أجل عدم الاستسلام لمنطق «الالتصاق الكلي» بين حركة «أمل» وبين «حزب الله»، طالما أن خلفية كل من هاتين القوتين مختلفة، أقله في الموضوع الحكومي.
ما زال المجال مفتوحاً على دوزنة كل من هذين الاتجاهين بالآخر في الأسبوعين المقبلين. لا يمكن استباق مسعى الدوزنة هذا منذ الآن. هناك مشهد واقعي حقيقي يظهر «حزب الله» في وادٍ، وكل من ليس «حزب الله» في وادٍ آخر، وينبغي عدم التفريط بإمكانات هذا المشهد. وهناك عهد يتميز بطاقات مساندة له وحالة التفافية حوله كبيرة وينبغي عدم هدر هذه الطاقات، ولا إضعاف حيوية هذا الالتفات.