IMLebanon

مسخ؟ بل قلْ مسوخاً!

في مثل هذه الأيام، لمئة عام خلت، صدرت للمرة الأولى تحفة الكاتب التشيكي فرانز كافكا “المسخ”. وصلني الخبر على البريد الالكتروني بواسطة إحدى النشرات الأدبية التي تردني أسبوعياً، فلم أتمالك، إذ رحتُ أستعيد حوادث تلك الرواية ومغزاها الإنساني المؤلم، إلا أن أفكّر بأن كل شخص منا قد أصبح، على طريقته، مسخاً بسبب الحياة اللئيمة، الصدئة، التي نعيشها في هذا البلد.

غريغور، شخصية كافكا الرئيسية، استيقظ ذات صباح ليكتشف أنه تحوّل حشرة مقرفة. الفرق بيننا وبينه أننا تحوّلنا حشرات من وراء ظهورنا، أي أن غالبيتنا لم تدرك بعد فظاعة هذا التغيير الذي ألمّ بها، أو بالأحرى، الذي فُرض عليها فرضاً، ولكن بسلاسة ومكر، طوال عقود من التيئيس واليباس والحلقات المفرغة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخ. صديقنا غريغور تمنّى أن يكون واقعه الجديد كابوساً لن يلبث أن يستيقظ منه، قبل أن يستسلم ويدرك أن هذا مستحيل. فهل نستسلم مثله، أو نستعيد إنسانيتنا، أي كرامتنا ووعينا واحترامنا لذواتنا؟

قد تعتبرون تشبيهي لنا نحن معشر اللبنانيين بالحشرات مهيناً، وشكلاً من أشكال الشتيمة، لكنه ليس كذلك البتة. صدِّقوني. فكِّروا معي: مَن يعيش وسط اكوام الزبالة؟ الحشرات (نحن أيضاً). مَن يزحف زحفاً رغماً عنه أو راغباً؟ الحشرات (غالبيتنا أيضاً ممّن هم مستزلمون لهذا الزعيم أو ذاك). مَن هو محض قوت للأقوى منه في السلسلة الغذائية؟ الحشرات (نحن أيضاً إذ يتغذى الساسة من لحمنا ويشربون من دمنا). مَن يُستخَفّ به ويُسحِق ويباد؟ الحشرات (ونحن أيضاً، للأسف).

أذكر أني يوم قرأتُ هذه الرواية للمرة الأولى كنتُ في الصف الثالث تكميلي. أذكر خصوصاً أن معلّمتي الرائعة نورما فوجئت عندما أخبرتُها بأني قرأتُها، فسألتني: “هل فهمتِها؟!”. أجبتها بنعمٍ واثقة. فابتسمتْ برقّة وطلبتْ مني إعادة قراءتها عندما أتجاوز العشرين. وفعلتُ. يومذاك فهمتُ ابتسامة نورما وتشكيكها بفهمي للقصّة. يومذاك فهمتُ المعاني الكامنة وراء السطح الفانتازي، وماذا يعني أن يتحوّل الإنسان مسخاً أو حشرة مثيرة للاشمئزاز، وكيف يحدث ذلك ومتى وعلى يد مَن. فهمتُ فقدان الهوية والشعور بالخزي والوحدة والوجع والحنق والغدر، وفهمتُ انعدام القدرة على التواصل الطبيعي مع العالم.

قد صرنا مسوخاً، أجل، أو نكاد. الانتحار كان الحلّ الوحيد الممكن أمام غريغور بواسطة اضرابه عن الطعام. أما كافكا، فاعترف في كتاب آخر: “لقد أمضيتُ حياتي أقاوم الرغبة في وضع حدّ لها”. بات علينا أن نقاوم، قبل فوات الأوان.