لم تتأخر القوى السياسية الساعية إلى تحقيق مكاسب في السلطة في تظهير موقفها من الحراك الشعبي وحتى المشاركة فيه. أصلاً، كان من الصعب على هذه القوى إخفاء ما تقوم به في الشارع. لكن الوقائع الجارية جعلت الشارع المنتفض، لحسابات مختلفة، يشعر بخطر هذه القوى على حراكه. وهو ما جعل البعض ينسحب من الساحات، أو دفع آخرين إلى إظهار موقفهم الرافض لكل القوى المشاركة في السلطة. واليوم، تدخل قوى أساسية في الحراك مرحلة النقاش الذي سيقود حتماً الى مواجهة مع هذه القوى، بنفس قدر المواجهة مع قوى السلطة نفسها. مع ذلك، فإن القوى والمجموعات المشاركة في الحراك لا تزال، حتى الآن، تخشى الإعلان عن إطار واضح ومنظّم مع جدول أعمال وأهداف منسقة.
المتسلقون ليسوا أكثر ذكاءً من أهل السلطة. لكن أوضاعهم تفرض عليهم المبادرة، بصورة مختلفة، الى الدخول في قلب الحراك. معارضون لوليد جنبلاط وسمير جعجع وجماعات أميركا المدنية فكّروا وكرروا، مراراً، أنه كان يجب على حزب الله والتيار الوطني الحر الانخراط في الحراك، ومنع هؤلاء من جرّه الى حساباتهم. لكن هؤلاء أنفسهم يعرفون، ولو أنكروا ذلك، أن أي طرف ينزل بصورة مباشرة أو مواربة الى الشارع سيستفزّ شارعاً وجمهوراً لا يرغب في وجود هؤلاء معه. وهذا ما جعل المحصلة الأبرز، الى اليوم، أنه لا يمكن لأي قوة سياسية الوجود علناً وباسمها أو بلافتتها داخل الحراك. كما جعل جميع السياسيين (باستثناء قلّة قليلة جداً) يمتنعون عن النزول الى الساحات، لأنهم يعرفون أنهم سيتلقّون سيلاً من الشتائم والهجمات. وحتى عندما يشكو مناصرون لجهة حزبية من تعرّض المتظاهرين لزعيمهم، فإنهم يفعلون ذلك بحياء وبعيداً من الأضواء. وهي حال الجميع من دون استثناء.
ماذا يعني ذلك؟
يعني، ببساطة، أن من يسيطر على الشارع هو المزاج. والمزاج، هنا، تعبير عن شكل من أشكال التعبير الجماعي لقسم من الناس عن عدم رضاهم الكامل عن أداء مؤسسات الدولة وأشخاصها. وهذا المزاج لم يكن ليتوسع ويتجاوز الحدود التقليدية للصراع في لبنان، إلا لكونه من دون سقوف أو حسابات. ولأنه بلا إطار، فهو يسمح لمن يرغب من الناس في المشاركة. وللسبب نفسه، يجعل آخرين يشككون ويهربون من الساحات. وللسبب نفسه، أيضاً، يجعل من يقفون على حافة النهر يزيدون من أسئلتهم حول الآتي من الأيام.
لكن المزاج ليس سراباً أو فراغاً أو شيئاً فالتاً في الهواء. المزاج، هنا، تعبير عن حالة نفسية غير قابلة للخروج مرة واحدة من خلال إطار. وهو منصة مفتوحة، لكنها قابلة للتنظيم بطرق مختلفة عن السائد. وهذا ما يتطلب جهوداً كبيرة، وكذلك بروز حاجة عند غالبية المشاركين بوجود أداة قيادية، لها إطارها الخاص ولها تعبيراتها في بيانات أو وجوه.
صحيح أن القوى الساعية الى استثمار الحراك لا تريد قيام إطار تنسيقي لأنها أقدر الآن على استغلال المزاج في وضع برامج وأهداف مفتوحة تصعيداً أو تهدئة. لكن من يؤمنون بقدرة الحراك على تحقيق تغييرات جدية، يعرفون أنه لا يمكن البقاء على الوضع الحالي الى وقت طويل.
في هذه الأثناء، يعمل كثيرون على ضرب الحراك الأصلي، وعلى نفي وجوده كحركة احتجاجية ومطلبية محقة. كما يعملون على منع تحوله الى قوة قادرة على فرض تغييرات جدية في طبيعة السلطة الحاكمة وسلوكها. وإذا كانت قوى السلطة هي الأكثر حماسة لعمل تخريبي من هذا النوع، إلا أن ذلك لا يعني أن الساعين الى استثمار الحراك لا يسعون، هم أيضاً، الى تعميم مناخ الفوضى ومنع تشكل إطار تنسيقي، كونهم يجدون في هذا الإطار الخطر الأقوى على عمليات التخريب التي يقومون بها.
عدم تشكّل إطار مسؤوليّة على عاتق الحراك، لكن ذلك لا يمنع أنّ لاعباً كبيراً صار موجوداً على الطاولة
في الحالتين، يواجه الحراك تحديات صعبة. وفي الحالتين، أيضاً، يصعب على أحد في إدارة الدولة، كما بين معارضيها التقليديين، التصرف من دون أخذ هذا المزاج في الحسبان، ومن دون التعامل، بواقعية شديدة، مع هذا المزاج كتعبير عام عن حقيقة اسمها الناس الذين يخرجون الى الشوارع وينتشرون في الساحات. وبالتالي، على أهل السلطة، كما على القوى المعارضة التقليدية، فهم أنه بات من الصعب تجاوز هذا المزاج. وبالتالي، فإن من يدعو الى اجتماع وطني هدفه إعادة تشكيل السلطة الحالية، أو البحث في تركيبة جديدة، أو السعي الى تأسيس عقد اجتماعي جديد، لا يمكنه تجاهل هذا المزاج. المهم، هنا، أن الإنكار لا ينفع. والمهم، أيضاً، أن كل من بيدهم الأمر، أعجبهم ذلك أو لم يعجبهم، عليهم التصرّف بأن شريكاً جديداً انضمّ الى اللعبة، وسيكون له ــــ مع الوقت ــــ صوته القوي وبنوده الواضحة في جدول الأعمال.
ولأن الحقيقة لا يحجبها صراخ ولا أشعار وأهازيج وأخبار كاذبة وطموحات وهمية، فإن الحوار هو السبيل الوحيد للدخول في مرحلة إنتاج حلّ قابل للحياة. وهو السبيل الوحيد لإعادة تجسير الهوة الكبيرة القائمة بين الحاكمين وبين قسم غير قليل من الشعب. وحتى في حال الإقرار بالوقائع التي تقول بأن جمهور قوى السلطة لا يزال قوياً وكبيراً جداً، إلا أن هذا الجمهور نفسه لا يجد نفسه بعيداً جداً عن شعارات وعناوين «المزاج». بل نعرف أنه في النقاشات الجانبية، التي يرتفع فيها الصراخ والسباب، تجنح غالبية شعبية حقيقية نحو انتقاد الحكم القائم وتحمّله مسؤولية الخراب.
إطلاق هذا الحوار، أو فتح كوّة في جدار الأزمة، أو جذب الناس الى تواصل هادئ، لم يعد اليوم مهمة فريق واحد. لم يعد بالإمكان للشارع القول: هذه مطالبنا وتصرّفوا! كما لا يمكن للحكم القول: قولوا لنا ماذا تريدون حتى نفعل!
من بيده الأمر، يعرف أن هناك إمكانية لفتح الأبواب واسعة نحو حوار وطني جدّي. لكن فتح الأبواب مسؤولية السلطة. وحتى يقبل الجمهور بمنحها حسن النية، على السلطة المبادرة الى خطوات تعكس استعدادها للتغيير. والمبادرة تبدأ بمغادرة مربع النقاش القائم حالياً حول طريقة تأليف الحكومة الجديدة.