منذ عشر سنوات نفّذت شبكة إرهابية تابعة للنظام السوري جريمتي تفجير مسجدي السلام والتقوى مُوقِعةً قرابة الخمسين شهيداً و800 مصاب بقي كثيرون منهم بإعاقات دائمة، ليُسجِّل الطرف نفسه جريمة إضافية بحقّ طرابلس التي طالتها منه مجازر أخرى، لعلّ أبرزها مجزرة التبانة عام 1986 وبلغ عدد ضحاياها ما يزيد عن الألف شهيد من الرجال والأطفال والنساء سقطوا على مدى أيام متتابعة وهي تأبى الاندثار أو النسيان.
اللافت في هذا المجال أنّ محور الممانعة وخاصة «حزب الله» يستحضر أحداثاً وقعت منذ مئات السنين ليثير قضايا مذهبية تتعلّق بالصراع السنّي الشيعي، بينما يُستكثر على أهالي المدن المنكوبة من قبل هذا المحور إحياء ذكرى شهدائهم ويصنّفها على أنّها إثارة للفتنة والانقسام، وهو يراهن على مسح الذاكرة الجماعية الذي يمارسه ضدّ خصومه في إطار استراتيجية تركيب القناعات وفرض الروايات للأحداث والوقائع.
لكنّ الذاكرة الجماعية لأهل طرابلس تأبى الخضوع لهذه الموجات وهي تستحضر ذكرى تفجير المسجدين اليوم الجمعة في احتفال مركزي يرعاه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان يُقام في معرض رشيد كرامي الدولي بحضور كلّ من: النائب أشرف ريفي، إمام مسجد السلام الشيخ بلال بارودي، إمام مسجد التقوى الشيخ سالم الرافعي، المطران يوسف سويف راعي أبرشية طرابلس المارونية وكلمة راعي الاحتفال.
تخاذل الدولة اللبنانية
يستذكر أهالي طرابلس شهداءهم ومصابيهم في ظلّ إهمالٍ كامل من الدولة لقضيتهم منذ لحظاتها الأولى، أمنياً وقضائياً، ثمّ إغاثياً وإنسانياً، وأخيراً سياسياً.
فعلى المستوى الأمني وضعت السلطة السياسية سقفاً للمتابعة الأمنية والقضائية، لذلك لم يحقِّق الملفّ أيّ تقدّم أمام العدالة، وبلغ الاستخفاف من السلطة السياسية مداه عندما تعاملت مع جريمة ثبتت مسؤولية النظام السوري عن ارتكابها، وكأنّها وقعت في أراضي بلاد الماوماو ولم يصدر أيّ موقف رسمي ينحو باتجاه اتّخاذ ما يجب اتّخاذه من مواقف وإجراءات ضدّ ارتكاب مجزرة ضدّ الإنسانية على الأراضي اللبنانية.
إستطاعت الممانعة المسيطرة على الحكم في لبنان أن تُبرِّدَ آثار جريمتي تفجير المسجدين وتداعياتهما مستندة إلى إطالة الوقت وإلى فتح سجالات عقيمة تحمِّل الضحايا مسؤولية مصارعهم وتثير الجدل حول تفاصيل جزئية للتعمية على الحقيقة الثابتة في مسؤولية نظام دمشق.
ورغم بشاعة الجريمة، فإنّ أي موقف على المستوى الدبلوماسي اللبناني لم يُتَّخَذ ولم يحصل استدعاء للسفير السوري في لبنان ولا للسفير اللبناني في سوريا، على الأقل من باب الاستجابة الشكلية للحدث الخطر، وقد حدث هذا الجمود بسبب وجود وزراء الممانعة في الحكومة ورفضهم أيّ خطوة في هذا الاتجاه.
ومن مظاهر إهمال الدولة هذه القضية ترك ضحاياها الأحياء بلا رعاية وعلاج ولا تأمين احتياجات من أصبح منهم من ذوي الإعاقة، بل تُرِك هؤلاء لمصيرهم من دون أيّ شكلٍ من أشكال المساندة، بعكس شرائح أخرى جرى تسجيلها في «دفتر» وزارات الشؤون والمال وجرت معاملتهم كشهداء وجرحى الجيش اللبناني، في انعكاس واضح للتمييز والاستغلال المشكوف لموارد الدولة التي نضبت اليوم.
لم يستح حلفاء النظام السوري في لبنان بما فعله حليفهم، تماماً كما حصل مع جريمة نقل ميشال سماحة المتفجّرات من سوريا إلى لبنان لاغتيال قيادات دينية وأخرى إسلامية ومسيحية، بل لجأوا إلى لغة التبرير والتسخيف وضغطوا لإخراج سماحة من السجن وكادوا ينجحون لولا الثورة الوطنية التي دفعت بالقضاء إلى العودة النسبية للقانون والحكم بسجنه 13 عاماً كان خلالها نزيل خمس نجوم، ولم ينته المشهد إلا باغتيال الشهيد وسام الحسن عقاباً على كشفه سماحة وعلى مساره الوطني الطويل.
أبشع ما في خطاب الممانعة هو ذلك الاستهزاء البائن بخطورة اتهام النظام السوري بجريمة قتل جماعية بحقّ مواطنين يفترض أنّهم شركاؤهم في الوطن ويتساوون في الحق بالدفاع عن النفس وفي رفض الاعتداء عليهم من أيّ جهة جاء. لكن في خطاب الممانعة ظهر أنّ قيام النظام السوري بقتل مواطنين لبنانيين في بيئة معارضة للممانعة هو أمرٌ محمود ودلّ على ذلك خطاب «حزب الله» وتدخّله في القضاء لسحب المتهمَين الرئيسين من دائرة الاتهام (هاشم منقارة وأحمد الغريب).
أمّا حلفاء النظام السوري و»حزب الله» في الساحة السنية، فإنّهم أصيبوا بانفصام ما بعده انفصام، ذلك أنّهم أدانوا الجريمة ورفضوا إدانة المجرم، وهذا ما فعلوه في الذكرى العاشرة للتفجيرين.
يناور سنّة 8 آذار بكلام عاطفي لا يُصرَف في السياسة ولا قيمة له في ميزان العدالة والإنصاف ولا في تحديد المواقف والمساحات التي تمنح الثقة أو تحجبها عمّن يفترض أنّه يمثِّل طرابلس، فهو يتجنّب الاعتراف بأنّ المسؤول عن الجريمة هو نظام دمشق حليفه وحليف حلفائه، وهو ما زال متموضعاً في متراس هذا النظام، بينما يعمد آخرون إلى التواري والصمت وعدم التعليق على هذه الذكرى الأليمة.
العدوان مستمرّ رغم انتهاء الحرب
تكمن خطورة وقوع مجزرة تفجير المسجدين في أنّها تؤكّد أنّ عدوان محور الممانعة مستمرّ على طرابلس وأهل السنّة وجميع معارضيه، وإذا كانت الحرب الأهلية قد أخرجت أحزاباً وقوى من دائرة العمل المسلّح وأنهت دورها في الحرب، فإنّ الحرب لم تنتهِ عند هذا المحور الذي فتح حروب الاغتيالات من رفيق الحريري إلى سائر الشهداء، ولن ينتهي بجريمة تفجير المسجدين، وهو الذي يتصرّف في جريمة تفجير مرفأ بيروت على قاعدة «كاد المريب يقول خذوني».
تاريخ طرابلس مع النظام السوري طويل والأرجح أن مجزرة تفجير المسجدين لن تكون الأخيرة، لكنّ شعارها سيبقى مُشَهراً في وجه القتلة: لن ننسى ولن نسامح وسنواصل نضالنا حتى استعادة الدولة والحقوق فالتضحيات التي قدّمتها الفيحاء لا تقبل الرجوع إلى الوراء.