أكثر من أربعين يوماً مرّت على قيام “حراك شعبي” قُدّر له أن يحظى بفرصة ذهبية للانقضاض على الطبقة الحاكمة، من باب تصويب أدائها وسلكويات مكوناتها، وليس من باب رميها في “مزبلة التاريخ”، طالما أنّها لا تزال ممسكة بالمؤسسات الدستورية… إلى أنّ تقضي الإرادتان الخارجية والمحلية غير ذلك. ولكن، إلى أن يحين ذلك، هي لا تزال تقبض على القرار الرسمي.
كسر “الحراك الشعبي” التابوهات وعرّى الطبقة السياسية من أوراق تينها وأظهر رفضاً عارماً من جانب اللبنانيين لكل ما هو “سلطوي” سواء كان “ابن مبارح” بالسياسة أو ابن ثلاثين عاماً. تساوى الجميع في تهمة القصور عن انقاذ المالية العامة، وألحقوا بـ”اللوائح السوداء”.
أبرز مستجداته كان “ليل المواجهات” وسط العاصمة. بدا جلياً أنّ “مركزية” الحراك تحوّلت ساحة تبادل رسائل سياسية عشية وصول الموفد البريطاني المدير العام للشؤون السياسية في وزارة الخارجية البريطانية ريتشارد مور إلى بيروت. صار الشارع حلبة صراع أحجام، يهدف على نحو خاص إلى تحسين شروط التفاوض الذي بدأ بضوء أخضر دولي، يدفع باتجاه تأليف حكومة لا تخلو من النكهة السياسية، وهي معادلة باتت تتعامل معها القوى المعنية على أنها ثابتة في “عمارة” الحكومة العتيدة.
وحده تردّد رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري هو الذي يحيّر بقية شركائه، كما تقول قوى الثامن من آذار. بات أسير مواقفه التصعيدية، ويحاذر في المقابل تسهيل مهمة بديل عنه، خشية من أن تكون “غلطة شاطر”. ولكن ماذا عن الانقلاب في المزاج العام؟
تعجز المجموعات المعترضة عن تقديم ذاتها، إلى الآن، كأطر بديلة عن القوى والأحزاب الحاكمة، لاعتبارات كثيرة:
أولاً، تتصل بهذه المجموعات كون أي غربلة للأسماء التي تحتل واجهة “الثوار”، لاختيار مجلس قيادي يتمتع بالحيثية التمثيلية، سواء لناحية الناس كمجموعات أو لأفكارهم، ستؤدي حكماً إلى “تقاتل” هذه المجموعات.
ثانياً، كون الأحزاب والقوى الحاكمة، على صراعاتها، تتفق في ما بينها، وعلى نحو غير مباشر، على الاستفادة من غياب قيادات جديدة قادرة على تصدّر واجهة الحراك، من شأنها أن تأكل من أطباقها وتشكل أطراً بديلة للأطر الحزبية الموجودة خصوصاً وأنّ المزاج العام اللبناني، لدى مختلف الطوائف، أظهر نقمة عارمة على الأحزاب الموجودة وأظهر تعطشه لقوى بديلة.
ثالثاً، يذهب بعض خصوم الحراك إلى حدّ التلميح إلى أنّ الاستراتيجية الغربية لحماية هذا النوع من الانتفاضات تقضي بعدم تأهيل أي من محرّكيها إلى مرتبة قيادات من الصف الأول وذلك بغية حماية الحراك من استهداف السلطة، وتعزيز متانة صفوفه.
ولكن لهذا الجانب علّاته أيضاً التي تضعف من حيوية الحراك وديناميته ومهمته خصوصاً بعدما تسللت بعض القوى الحزبية إلى عروقه وشرايينه لاستثماره في معاركها السلطوية. ولعل أبرز هذه العلّات هو اصرار الحراك على الصوت الاعتراضي الرافض لكل ما هو قائم من دون أن يتمكن من الانتقال إلى ضفّة المبادرة والحراك الايجابي، بمعنى ترجمة أفكاره على شاكلة مشاريع وخطط عبر خريطة طريق واضحة تضع السلطة أمام مسؤولياتها، طالما أنّها لا تزال الممسكة بالقرار الرسمي، وتشرح بالتفصيل مقارباتها الأساسية وتحديداً تلك الاقتصادية والمالية.
إذ لا يكفي الوقوف في وجه السلطة ورفع مطلب تأليف حكومة اختصاصيين من دون توضيح دور هذه الحكومة ومهمتها بشكل مفصّل وواضح، ولا بدّ من الاستفادة من هذه الفرصة للانتقال بالنقاش من الخطوط العامة العريضة إلى التفاصيل التي توضح الخيارات الاقتصادية المطروحة للمرحلة المقبلة والتي يفترض أن تتسم بالطابع الانقاذي لمواجهة الأزمة المستفحلة التي أدخلت البلاد في انهيار غير معلن.
ويفترض بالقيمين على الحراك الغوص أكثر في القضايا الأساسية والتحديات الكبرى على نحو يوضح المهمة الانقاذية المنتظرة كون البلاد على مفترق طريق نقدي ولا بدّ من توضيح المقاربات العلاجية المتداولة لتحديد خريطة طريق الحكومة العتيدة حتى لو ضمّت وجوهاً من الاختصاصيين، كي لا تترك الأمور بيد القوى الحزبية التي لا تزال تقبض على قرار مجلس النواب.
يقول أحد المتابعين للحراك، إنّ القوى السلطوية لن تتخلى بسهولة عن مكتسباتها، وهي بالتالي تتكل على غياب أطر بديلة قادرة على تأطير الناس وتنظيمها، كي لا تبذل جهوداً استثنائية في مواجهة “بعبع” الحراك، وبالتالي هي تراهن على تعب الناس وخروجها من الشارع للامساك مجدداً بمقاليد السلطة، ولو عبر وجوه جديدة لا تثير حساسية الشارع ونقمته.
ولهذا، على الحراك وضع النقاط على الحروف من خلال توضيح سلّة مطالبه لتكون على شاكلة رزمة اقتراحات محددة تمثل خريطة طريق المرحلة المقبلة، يُلزم السلطة، معنوياً، بتنفيذها، بالكامل أو على نحو جزئي، كي لا تذهب جهوده سدى.
يقول أحد المناضلين القدامى ممن شاركوا في ثورة 2005 إنّ تلك الانتفاضة جمعت شباباً من أحزاب كانوا على نقيض سياسي، لكن روح التغيير ورفض الواقع جمعاهم عندّ خطّ التقاء وسطي، وإذ بهم يستيقظون يوماً على واقع سياسي مرير سرق منهم أحلامهم وطموحاتهم لمصلحة قياداتهم، بعدما هدأت العاصفة وانقشعت الرؤية السياسية. ويلفت إلى أنّ أكثر ما يخشاه أن تنتهي “انتفاضة 17 تشرين” على المنوال ذاته بعدما ينقشع غبار الصراع الإقليمي، فتعود التركيبة الحاكمة بأقنعة “اختصاصيين” لا يبدّلون في الجوهر شيئاً.