أساليب التشاطر التي يتعاطى بها الساسة في لبنان، أثبتت عدم جدواها في تغيير نظرة الخارج السيئة تجاه المنظومة السياسية، فضلاً عن عقمها في إيجاد الحلول المناسبة للأزمات المتفاقمة، التي تتخبط في مهاويها البلاد والعباد.
بين حراك اللجنة الخماسية المتجدد، وطفرة الزيارات الديبلوماسية، العالية المستوى، تحاول أطراف سياسية فاعلة الهروب إلى الأمام، بمواجهة التداعيات السلبية المتلاحقة على الوضع الداخلي، في حين تعمل أطراف أخرى، على ربط الإستحقاق الرئاسي، بتطورات خارجية، تفوق قدرة لبنان على مجاراة مضاعفاتها.
حملة التيار الوطني على الخماسية، والترويج لحصول خلافات وحساسيات بين السفراء، حول من يقود الحراك مثلاً، والتباين في تفضيل مرشح على آخر ــ كذا ــ، تعكس حالة من عدم اليقين التي يعيشها رئيس التيار النائب جبران باسيل، بعد فشل حملته لمعارضة التمديد لقائد الجيش العماد جوزاف عون، وشعوره بالعزلة السياسية، بعد إنفكاك تحالفه مع حزب الله، وإنتهاء «تقاطعه» مع القوات والكتائب ومجموعات المعارضة الأخرى.
وأظهرت حملة التيار على الخماسية أيضاً، عدم إطلاعه على المستجدات الأخيرة في آلية عمل اللجنة، وعدم إحاطته بالتقدم الحاصل في مجال التنسيق بين أطراف الخماسية، وما تم التوافق بين أعضائها على المبادئ الاساسية التي ستحكُم تحرك السفراء والموفدين، في مقدمتها تكريس المواصفات المطلوب توفرها في الرئيس العتيد، وفي مقدمتها خلو سيرته الذاتية من أي شبهات فساد، وأن لا يكون محسوباً على فريق سياسي معين، أو في حالة إستفزاز مع أيٍّ من الفرقاء السياسيين والحزبيين الآخرين.
هذه الحملة الإنفعالية هي أشبه بمن يحاولون إطفاء نور الشمس بأفواههم، لأن المفاعيل السلبية سترتد على أصحابها، رغم الحرص الخماسي على إستيعاب كل الأطراف السياسية، بما فيها التيار الوطني، ورئيسه بالذات، في العملية السياسية التي ستفكك عقد الإستحقاق الرئاسي.
وما أعلنه الرئيس نبيه برّي عن مضمون اللقاء الأول مع سفراء الخماسية، حول «لبننة الإستحقاق الرئاسي»، يؤكد بما لا لبس فيه، أن دور الدول الخمس يقتصر على تسهيل إنهاء الشغور في رئاسة الجمهورية، وإعادة فتح أبواب قصر بعبدا، دون التدخل، من قريب أو من بعيد، في لعبة أسماء المرشحين، لا تفضيلاً ولا رفضاً، تاركين للنواب اللبنانيين تحمل مسؤولية الخيارات التي سيرجحونها في صندوقة الإقتراع، بعد جولات من الإستشارات تؤمن النصاب الدستوري، وتضمن مشاركة الأكثرية النيابية في جولات الإنتخاب.
وبموازاة تحرك سفراء الخماسية، ظهر إلتباس حول ربط بين الإستحقاق الرئاسي وتنفيذ القرار ١٧٠١ في الجنوب، بالتوازي مع مصير الحرب الإسرائيلية على غزة.
أن يربط حزب الله تنفيذ القرار الأممي بوقف إطلاق النار في غزة، فهو موقف يصب في سياق الأوضاع المتوترة علي الحدود الجنوبية، منذ إندلاع حرب غزة، وحرص الحزب على مشاغلة قوات العدو، ضمن قواعد الاشتباك، لتأكيد الوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية في القطاع المنكوب.
وقد يكون موقف الحزب مبرراً، برفض البحث بأي ملف حدودي، يتعلق بالترسيم البري، أو تنفيذ القرار ١٧٠١، قبل وقف الحرب في غزة، نظراً للترابط الحاصل بين الجبهتين، كما حصل في الهدنة الأولى في غزة.
أما القول أن الإنتخابات الرئاسية تنتظر أيضاً إنهاء العمليات العسكرية في غزة، فيمكن وضعه في خانة التعطيل، الذي يزيد الأوضاع المتردية تدهوراً، ويستنزف ما تبقَّى من قدرات الصمود عند اللبنانيين، فضلاً عن الإرباك الذي سيسببه للبنان، في حال إنعقاد أي مؤتمر إقليمي ــ دولي، لترتيب أوضاع المنطقة، بعد إنتهاء الحرب في غزة.
ليس من السهل توظيف نتائج الحرب في غزة، في حسابات السياسة المحلية في لبنان، لأن أي خلل جديد في المعادلة الوطنية، سيضاعف من تعقيدات الأزمات الراهنة، ويؤخر التوصل إلى المعالجات الناجعة، إذا لم يؤدِّ فعلاً إلى نسف كل مشاريع الحلول والتسويات المطروحة، لمساعدة البلد على القيام من كبوته.
لبنان أمام فرصتين على جانب كبير من الأهمية التاريخية: الأولى تتيح فرصة تحرير الأراضي المحتلة في مزرعة شبعا وتلال كفرشوبا ونتوءات الخط الأزرق، والعودة إلى حدود الهدنة المكرسة دولياً منذ عام ١٩٤٩، وهذا ما كان أعلنه أيضاً الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله شخصياً، في إحدى إطلالاته الأخيرة.
أما الفرصة الثانية، فتُفسح المجال لإعادة الحياة إلى شرايين الدولة المتهاوية، عبر إنتخاب رئيس الجمهورية، وتشكيل حكومة قادرة على إستعادة الثقة في الداخل والخارج، وإطلاق ورش الإصلاحات والإنقاذ. دون أن يعني ذلك ضرورة ربط الفرصة الثانية بالأولى، بل على العكس تماماً، فإن إنهاء الشغور في بعبدا عاجلاً، يساعد على تعزيز الموقف اللبناني في مفاوضات ترسيم الحدود، وإتمام الإنسحابات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة آجلاً.