تنتظم اللغة الفارسية على منوال «الفاعل٬ والفعل٬ ثم المفعول به»٬ على غرار القواعد اللغوية المعمول بها في أغلب اللغات ذات الأصول الهندية الأوروبية٬) وهو على العكس من ذلك في اللغة العربية!) ما يعني أن أول ما تصنعه الجملة الفارسية هو تحديد الفاعل٬ أي من يقوم بأداء الفعل نفسه. والسمة البارزة لمثل هذه الجملة هو تميزها بالوضوح. فإنك تعرف َمن َفَعل ماذا٬ مع َمن٬ قبل أن تعرف متى قام بالفعل ولماذا فعله.
ولكن ماذا لو٬ لأي سبب كان٬ أنك تخشى من هذا الوضوح وترغب في إخفاء الحقيقة خلف ستار من الغموض والضباب والوهم. ومن الناحية الكتابية٬ ماذا لو أنك ترغب في ممارسة «التقية» أو «الكتمان».
حاول بعض الكتاب٬ على مر العصور٬ وكثير منهم من الملالي٬ معالجة هذه الإشكالية مستخدما أداة صرفية تسمى «ناكاريه» أو «المبني للمجهول» والتي تسمح للكاتب أو المتحدث بقدر من الغموض حول الفاعل في الجملة المكتوبة أو المنطوقة. وبالتالي٬ بدلا من تحديد فاعل الجملة عند بدايتها٬ يمكنك القول «لقد حدث ذلك…»٬ أو «هم فعلوا ذلك..».
والأمثلة على استخدام هذه الأداة الصرفية كثيرة ومتنوعة في كتابات علماء المذهب الشيعي٬ بدءا من محمد باقر المجلسي٬ وحتى العلامة الطباطبائي الأكثر حداثة والأوسع معرفة.
غير أن هذه الأداة قد كثر استخدامها أيضا لدى السياسيين والدبلوماسيين. ففي عام 1941 عندما غزت القوات الروسية والبريطانية إيران بهدف استخدام خطوط السكك الحديدية على أراضيها في نقل الأسلحة إلى الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية٬ صرح رئيس الوزراء الإيراني وقتها محمد علي فروغي ببيان عبر الإذاعية الإيرانية٬ جاء فيه: «لقد جاءوا٬ ثم انصرفوا٬ وهم لن يزعجوا أحداً بعد الآن!».
إنه لم يتح ّمل التفوه بالحقيقة بلغته الفارسية الجيدة ليقول: «لقد غزت القوات البريطانية والروسية بلادنا!».
وفي عام ٬1989 عندما أ جبر آية الله الخميني على الاعتراف بأنه لن يستطيع المسير إلى القدس عبر كربلاء العراقية٬ لم يقل إن وعده المأساوي قد فشل٬ بل قال: «لقد تقرر قبول وقف إطلاق النار»٬ هكذا!
وفي الآونة الأخيرة٬ كان فريق الجمهورية الإسلامية٬ الذي وضع الاتفاق النووي مع باراك أوباما٬ قد استخدم نفس الأداة الصرفية في صياغة النسخة الفارسية من 179 صفحة من «صحيفة الحقائق»٬ وفيها أن هذا الأمر أو ذاك «سوف يتم» من دون أن تقف قط على «الفاعل» الذي ُيفترض قيامه بالفعل المطلوب. وحرصا على تأمين قدر من الإرث للسيد أوباما٬ سقط الجانب الأميركي في فخ الخدعة الإيرانية٬ ومضوا يزعمون أن الإيرانيين سوف يفعلون هذا أو ذاك من الأمور.
وبعض الكتّاب٬ مثل صديقي الراحل جلال الأحمد٬ الذي غادر الشيوعية صوب الإسلاموية٬ كان قد استخدم نسخة مختلفة من تلك الأداة الصرفية عن طريق إدغام الفعل في منتصف الجملة بكتاباته٬ ليخلق حالة الارتباك والغموض المطلوبة.
وهناك كثير من النقائص الناجمة عن استخدام هذه الأداة الصرفية٬ ولا سيما في مجال السياسة٬ حيث لا تعرف الجماهير أبداً من هي الجهات المتنافسة أو المعارضة في أي حجة مطروحة كانت.
وأحدث الأمثلة على ذلك كان خطاب الرئيس الإيراني٬ المعاد انتخابه حديثا٬ في طهران مع الصحافيين الأسبوع الماضي: «يدعي البعض خبرتهم العميقة في قياس تقوى الناس وإيمانهم بالثورة٬ ويعصفون بمن هم أفضل منهم في ذلك!» وعندما سأله أحد الصحافيين عمن يقصد بـ«البعض»٬ أجابه روحاني بقوله: «ومن ورائهم هناك َمن يتخذ
القرارات». من دون أن يعطف على تسمية هذه الشخصية التي يتحدث عنها. (خضعت كلمات روحاني للرقابة على قنوات الإذاعة والتلفاز المملوك للحكومة الإيرانية٬ ولكنها متاحة للمشاهدة على موقع يوتيوب!).
ولقد استخدم المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي نفس الأداة الصرفية الخادعة. ففي كلمته إلى جمع من الطلبة «المسلحين» الأسبوع الماضي٬ قال خامنئي: «بالطبع٬ إن كلماتي موجهة إلى الجميع لبذل ما في وسعهم٬ واضطلاع (الهيئات الرسمية) في الدولة بواجباتها للتصرف من تلقاء نفسها كما هو الحال في ساحات المعارك عندما يحين الوقت لإطلاق النيران بلا ضابط أو حاكم».
ومن الواضح أن روحاني وخامنئي يشير أحدهما إلى الآخر في نهاية المطاف٬ في سياق الصراع من أجل السلطة داخل الدائرة الخمينية الضيقة التي ينضويان تحت لوائها سوياً . ومع ذلك٬ ليس منهما أحد مستعد لاعتماد الموقف السياسي الطبيعي القائم على تحديد «الجانب الآخر» وتسميته في أي حوار كان٬ أو التفوه صراحة بأي خلافات أو توضيح أي فروق في وجهات النظر٬ ومطالبة الرأي العام بدعم أو إسناد أي من الموقفين. بل لا بد من المحافظة على أسطورة «الإجماع الإسلامي» الخادعة على حساب الحقيقة الجلية.
وفي الأسبوع الماضي٬ استخدم بعض من أعضاء المجلس الإسلامي٬ أو البرلمان الإيراني المصطنع٬ نفس الخدعة الصرفية٬ في الإعراب عن إحباطهم إزاء فشل الحكومة أو عدم رغبتها في التقدم بسرد متماسك وراسخ بشأن الهجمة الإرهابية التي هزت العاصمة طهران.
ومن أحد الأعضاء٬ أحمد زماني٬ الذي قال بعد مرور ستة أيام على الهجمات: «ليس هناك تقرير رسمي عما حدث بالفعل».
وهناك عضو آخر٬ محمد قاسم زماني٬ الذي صرح: «لا بد للمهاجمين من شبكة للقيادة والسيطرة والدعم٬ والتي لا نعرف عنها أي شيء قط».
وعضو ثالث٬ محمد رضا طابش٬ الذي قال: «توفرت مساعدة ما للإرهابيين٬ وإلا ما كانوا استطاعوا أن يفعلوا ما فعلوه».
وعلى غرار خامنئي وروحاني٬ أراد النواب البرلمانيون الثلاثة إرضاء الناخبين في دوائرهم الحقيقية أو المتوهمة٬ من دون الالتزام الحقيقي بأي موقف واضح حيال الأحداث. وهم على غير استعداد لتسمية أجهزة الأمن الإيرانية باسمها٬ أو المؤسسة العسكرية٬ وسادتهم من الساسة٬ وإلقاء اللائمة عليهم في الإخفاق عن تقديم سرد موضوعي وموثوق حول المأساة.
تعد اللغة من وسائط تبادل المعلومات والأفكار والمشاعر في مناحي الحياة كافة٬ بما في ذلك المجال السياسي. وفي جمهورية إيران الإسلامية٬ رغم كل شيء٬ تُستخدم اللغة إما في إخفاء أشياء أو البعث برسائل مشفرة لا يدرك فحواها إلا أهل الدراية والاطلاع.
وفقدان الشجاعة في التعبير عن الإدانة المستندة إلى الراسخ من الوقائع٬ قد يكون في بعض الأحيان بهدف حماية الذات من الأذى في بيئة مناوئة وربما معادية٬ ومن ثم يأتي المبرر الذي يتبناه بعض الملالي في استخدام «التقية».
ولكن ماذا عن السياسيين العاملين في بيئة من صنعهم وخاضعة لسيطرتهم؟
قد يتفهم المرء السبب وراء فرض الرقابة أو ربما الإسكات المطبق على المنتقدين للنظام الحاكم. ولكن٬ ماذا عن وسائل الإعلام الحكومية التي تفرض الرقابة على تصريحات رئيس الجمهورية٬ ناهيكم عن ذكر الرؤساء السابقين الذين تحولوا إلى شخصيات وهمية؟
يزعم الرئيس روحاني أنه من المعتدلين والإصلاحيين٬ من دون أن يخبرنا عن المسائل المحددة التي يعتزم الاعتدال فيها أو عن الجوانب المعينة في سياسته الحالية التي يرغب في إصلاحها٬ وكيف يتصور ملامح هذا الإصلاح.
ومن جانبه٬ لا يفتأ خامنئي يحذر وباستمرار من «عملاء التآمر ووكلاء الصهيونية» الذين يحاولون تخريب الثورة الإيرانية من الداخل٬ ولكنه لا يخبرنا أبدا « َمن» هؤلاء٬ ولماذا هم متروكون لمتابعة تنفيذ مخططاتهم في الداخل الإيراني.
إن كبار سدنة الدائرة الخمينية لا يتحدثون أو يكتبون اللغة الفارسية بطلاقة٬ أو بالطريقة التي ينبغي أن يكون عليها الأمر. وهذا هو السبب في أنهم كلما زاد حديثهم ازدادت حيرة الناس في إدراك فحوى حديثهم. والصوت الوحيد الأصيل المسموع هو صوت شحذ الخناجر خلف الكواليس.