لم تكد النيابة العامة المالية تُصدر مطالعتها طالبةً تزويدها ببيانات على خادم (server) نظام «نجم» الآلي تكشف تلاعب الموظفين المشتبه فيهم باختلاس مليارات الليرات، حتى تعطّل النظام فجأة. فرضية المؤامرة محسومة بالنسبة إلى مصادر قضائية ترى «أننا أمام فضيحة غير مسبوقة، بدأت بالتواطؤ في اختلاس أموال الدولة وتلاها تواطؤ لمحو آثار الجريمة».
بضعة أيام فصلت بين صدور المطالعة والعطل المفاجئ. وما يثير الشكوك في أن العطل مفتعل هو تكليف الموظف إيلي ن. بإصلاح العطل، علماً بأنه أحد المدعى عليهم بالتورط في اختلاس مليارات الليرات وممنوع من دخول أي مركز جمركي بأمرٍ قضائي. وللحصول على إذن قضائي يمكّنه من دخول المركز، أُبلغ المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم بأنّ هذا الموظّف هو الوحيد الذي يمكنه إصلاح العطل. وعزّز ذلك فرضية أن يكون تعطّل النظام مفتعلاً لإخفاء الداتا التي يطلبها القضاء، والاشتباه في قيام الموظف ــــ المشتبه فيه ــــ بمحو هذه الداتا.
وكان القضاء قد طلب تزويده بجميع البيانات التي جرى تعديلها على النظام الجمركي للتوسع في التحقيقات وإعادة استجواب موظفين في الجمارك تلاعبوا بالبيانات الجمركية لتحديد قيمة الأموال المختلسة التي تُقدّر بمليارات الليرات. وقد أحصى القاضي الذي يحقّق في الملف آلاف عمليات التلاعب في النظام الإلكتروني في المركز الآلي جراء قدرة الموظفين على الولوج إلى البيانات الجمركية في أي وقت لتحديد إن كانت هذه البضائع يجب أن تخضع للتفتيش أو لا، ثم تبديل المعايير للبضائع لتمريرها برسوم أقل أو من دون دفع الرسوم، قبل أن يمسحوا آثار جريمتهم بالتواطؤ مع موظفين تقنيين عيّنهم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).
وقد ادّعت النيابة العامة المالية على ستة موظفين لقيامهم بتواريخ مختلفة، خلال الدوام الرسمي وخارجه، بالدخول إلى النظام، وإجراء تعديلات غير مشروعة على المعايير الموضوعية فيه، سواء عن طريق إفراغ المعايير من مضمونها، أو عن طريق التلاعب بنسب إخضاع البضائع للتفتيش، وتم الادعاء عليهم بجرائم «تأليف جمعية أشرار بهدف اختلاس أموال عمومية، وقبول رشوة وتخريب منشآت عامة والإثراء غير المشروع، وتبييض الأموال والتزوير الإلكتروني، واستعمال المزوّر والإخلال بالموجبات الوظيفية»، مع طلب تجميد حساباتهم المصرفية، ووضع إشارة على سائر قيود أموالهم المنقولة وغير المنقولة، ومنعهم من دخول أيّ مقار مستخدمة من الجمارك اللبنانية لحين انتهاء المحاكمة. وكشفت التحقيقات أنّ عمليات التلاعب بدأت منذ أكثر من عشر سنوات بتواطؤ بين مسؤولين وموظفين في الجمارك. إلا أنّ جميع هؤلاء أُخلي سبيلهم.
لكن لمصادر جمركية رواية مغايرة. إذ تنفي فرضية التعطيل المفتعل للنظام، مشيرة إلى أنّ سبب العطل توقف المولّد عن العمل. وتنقل المصادر أنّ رئيس المجلس الأعلى للجمارك العميد أسعد الطفيلي تقدم بطلب إلى المدعي العام المالي للسماح للموظف إيلي ن. بالدخول إلى المركز الجمركي باعتبار أن الشركة العالمية (hp) هي التي تولت المهمة، وهي من طلبت وجود هذا الموظف لخبرته ومعرفته بالنظام. كما أنه تولى عملية الصيانة لفترة طويلة. فيما أفادت مصادر قريبة من القاضي إبراهيم بأنّ إيلي ن. ليس موظفاً جمركياً، بل متعاقد مع الجمارك. وأكّدت أن إبراهيم منحه الإذن للدخول إلى المركز الجمركي، إلا أنّها أشارت إلى أنّ النظام أُعيد إصلاحه من دون دخول الموظف المذكور.
فرضيّة المؤامرة محسومة بالنسبة إلى مصادر قضائيّة ومصادر الجمارك تنفي
ردُّ الجمارك لا يُغيِّر في حقيقة أنّ الإهمال قد يكون وجهاً آخر من أوجه الفساد. إذ كيف يُعقل أن يعتمد نظامٌ جمركي على مولّد واحد لم يخضع للصيانة منذ زمن، ومن دون وجود مولّد احتياط لحالات الطوارئ. أضف إلى ذلك أن في إدارة الجمارك من يقرّ بحصول تلاعب في فترات سابقة، كان يجري خلالها الدخول الى النظام وتبديل لوائح المواد المفترض إخضاعها للتفتيش بما يجعلها تمرّ من دون رقابة مباشرة، وأن ذلك كان يتم بطريقة ذكية، إذ يجري التدخل لساعة أو ساعة ونصف ساعة بعد التوافق مع التجار أصحاب هذه المواد على إدخالها ضمن هذه الفترة، ثم يصار لاحقاً الى إعادة العمل بالنظام كما هو مقرر، وهو ما سمح بالتهريب المباشر أو التهرب الضريبي. وقالت المصادر إن المجلس الجديد لإدارة الجمارك أقرّ آلية تفرض أن يتشارك رئيسه واثنان من الأعضاء معاً وفي وقت واحد إمكانية الولوج الى النظام من خلال كلمة مرور مؤلفة من 24 رمزاً يختار كل عضو من الثلاثة ثمانية رموز لا يعرفها الآخران، ما أدى عملياً الى عدم قدرة أحد من إدارة الجمارك أو العاملين معهم على ولوج النظام.
هذه القضية تُعيد إلى الأذهان قضية 40 موظفاً جمركياً يحاكمون منذ عام 1999 بجرم اختلاس المال العام أمام محكمة الجنايات في بيروت. وقد مرّ أكثر من عشرين عاماً من دون أن يصدر حكم بحقّ هؤلاء، حتى إنّ بعضهم توفي قبل صدور الحكم ومعرفة المذنب من البريء.