IMLebanon

كلما ضاقت الرؤية … اتسعت الشتيمة

على عكس ما قال النفري المحتفل باتساع الرؤية، يعاني عالمنا من ضيق فيها إلى الحد الذي لم تعد معه العبارات تكفي لوصف أو لاحتجاج. ضاقت الرؤية وانهارت اللغة بعدما سقطت السلطات والمجتمعات الحاملة الكلام وصور الواقع.

وعندما يتقلص قاموس الكلمات بحيث لا يعكس إلا أطياف القشور، وعندما يصبح الكذب هو «ما بعد» حقيقة، لا يجوز الشك في قيمته وتمثيله وجهة نظر شرائح واسعة من الناس المتفقين على تجاهل المآسي المحيطة بهم لدواع يعرفونها لكنهم يعلنون غيرها، لا تبقى إلا الشتيمة كمعبّر أخير عن الرفض العميق للالتفاف على الحقيقة وتبرير القتل والظلم.

تفترض العقلانية قدرتها على تفسير الواقع وتفنيد المغالطات المقصودة والعفوية ورسم صورة «مطابقة» للحقيقة الموضوعية المستقلة عن رغبات ومصالح هذا الطرف أو ذاك. وتعتقد أيضاً بقدرتها على إقامة الحجة على المزورين والمدلسين ومروجي الأكاذيب والأضاليل. بيد أن هذه العقلانية المستندة إلى نمط تفكير تحليلي سببي يعيد الظواهر إلى أسباب تسفر عن نتائج. في المقابل، وُصف الشتّام دائما بالعاجز عن تقديم وجهة نظره تقديماً تحليلياً سببياً، ذلك أنه باختصاره الطريق بين المقدمة والنتيجة عبر الشتيمة والتفريغ العاطفي الحاد، لا يبني موقفاً يتسم بالقابلية للإقناع أو الجدال. إنه يختتم أي نقاش مع فكرته (إن وجدت) من خلال سلب المحاور حقه في الرد وأهليته للحوار بإلصاق صفات النقص والجهل والغباء وما يدخل في هذا الباب، بالخصم.

نادراً ما نجد تناولاً جدياً لمعنى اللجوء إلى الشتيمة في المجالين العام والخاص. واختزالها بأنها طريقة العاجز عن الرد لحسم الموقف لصالحه، أو بالقول إنها انعكاس لمركبات نقص وعقد دونية وسعي إلى جذب الأضواء كعلاج لنواقص ومثالب في التركيب النفسي للشتّام، لا تفي الموضوع حقه، إذا كان السلوك الأسلم هو الإسهاب في الشرح والبرهان واستخدام آليات المنطق في الاستقراء والاستدلال وما شاكل.

الحال أننا في زمن تعددت مصادر «الحقيقة» ولا تفتقر أي جهة إلى الإمكانات اللازمة لصنع حقيقتها الخاصة والناجزة. وإذا كانت التقنيات الحديثة توفر القدرة على صنع «الحقيقة» التي تلائم مالك هذه التقنيات، فربما يكون اللجوء إلى مستوى أعلى من التقنيات ذاتها هو السبيل إلى دحض «الحقيقة» المزيفة. ويستدعي الدخول في السباق إلى الحقيقة أمرين: الأول هو الإقلاع عن الاعتقاد بقيمة القناعة المسبقة والتوقف عن اتباع أسلوب الكتاب الرومنطيقيين في القرن التاسع عشر الذين منحوا أنفسهم الحق في رؤية الأشياء وفق مزاجهم ومعارفهم الشخصية ومطالبة العالم بإقناعهم بغيرها، فالعالم لا يبالي بما نعرف أو لا نعرف. والثاني هو الانتقال إلى طور أحدث من التعامل مع الواقع، وهو طور يرتبط بكفاءة الباحث في تشبيك المصادر التي توفرها وسائل الاتصالات الحديثة والتي يتوافر الكثير منها من مصادر مفتوحة.

ربما أصبح إثبات الوقائع أكثر تعقيداً وكلفة، لكنه يبقى السلاح الوحيد ذا الصدقية لإسكات مجرمي حرب ومنصات إعلامية تروج للمذابح بذريعة تحرير فلسطين. نحن اليوم في زمن يختلف عن ذاك الذي كان النفري يجد فيه من «يوقفه» ويقول له الحقيقة. فهذه باتت طريدة نادرة يتطلب الوصول إليها البحث والجهد وعدم الرضوخ إلى إغراء الاختزال بشتيمة حتى لو كان من يستحقها «حيواناً»، على ما جاء في مقابلة دونالد ترامب.