يبدو أن تعليق العمل بسياسة تعطيل عقد جلسات المجلس النيابي سيأخذ طريقه إلى التنفيذ بعد الاجتماع المقبل لهيئة مكتب المجلس، بدليل أن المعلومات التي أدلى بها أحد المفوضين الأعضاء في الهيئة أشارت إلى أن هؤلاء الأعضاء سيعودون إلى كتلهم وأحزابهم لاختيار المشاريع التي أنجزت اللجان النيابية المختصة درسها لإدراجها على جدول أعمال الهيئة العامة باعتبارها «تشريع الضرورة». وبهذا يكون معطلو الجلسات قد تجاوزوا الذريعة التي ابتدعوها لتبرير التعطيل، وبات عقد الجلسة التشريعية ينتظر فرز ما يعتبر ضرورياً من المشاريع وما هو غير ضروري!
ويبدو واضحاً أن مصطلح «تشريع الضرورة»، هذا الذي لم يكتشفه واضعو الدستور ومبادئه وأصحاب الاختصاص من قبل، لم يكن مقبولاً في المبدأ من رئاسة الهيئة، بدليل أن اجتماع هيئة المكتب انتهى من دون إصدار بيان رسمي عن نتائجه، الأمر الذي نادراً ما يحصل إن لم يكن يحصل لأول مرة. ولعل السبب في ذلك يعود إلى تجنب تبني هذا المصطلح الجديد.
فـ «تشريع الضرورة» لا يتقارب مع مفهوم «التشريع الاستثنائي» أو تشريع الظروف الاستثنائية. فالتشريع الاستثنائي يكون لتجاوز أحكام نص نافذ الإجراء، وما يستدعي اللجوء إليه أن العمل بتلك الأحكام يكون متعذراً أو نتيجة لترقب حالة عند استحقاق مفاعيله تحول دون تطبيقه، ولهذا فإن تشريع الظرف الاستثنائي يتركز في معظم المرات على استحقاقات وضع المشترع تواريخ محددة لإجرائها. أما تشريع الضرورة وفق ما تم توضيحه فينحصر بفرز المشاريع وتقييمها للقول إن هذا المشروع ضروري وهذا غير ضروري.. وهذا خطأ فادح.
ففي الأصل ليس هناك تشريع ضروري وتشريع غير ضروري. فالتشريع إما أن يكون ضرورياً وإما أن لا يكون. وفي مطلق الأحوال، فإن الكلمة الفصل في تصنيف ذلك ليست لهيئة المكتب ولا نائب أو كتلة أو حزب محدد، إنما للهيئة العامة للمجلس. فحتى الحكومة لا تستطيع أن تأخذ هذا الدور، لأنها بمجرد وضعها المشروع تكون قد اعتبرته ضرورة، وإلا فهل كانت تتسلى عند وضعه؟ وإذا كان لهيئة المكتب أن تصنّف المشاريع وفق ضرورتها وعدم ضرورتها، فكيف يمكن أن تمارس مثل هذه الصلاحية إذا ما كانت الجلسة منعقدة وتقدَّم نائب باقتراح معجّل مكرّر؟ ألا يمكن للرئيس طرحه في الجلسة من خارج جدول الأعمال «المصنف» من الهيئة؟
من هنا يمكن اعتبار مصطلح «تشريع الضرورة» بمثابة مصادرة لواحدة من أهم صلاحيات مجلس النواب، لكونه يضع المبادرات التشريعية بشقيها، الاقتراحات والمشاريع، خاضعة لمزاجية أربعة نواب يشكلون الأكثرية من أعضاء هيئة المكتب، إضافة إلى مصادرة سلطة رقابية على سياسة مجلس الوزراء عندما ترتئي أن من المشاريع المحالة إلى السلطة التشريعية ليس ضرورة فتضعه على لائحة الانتظار الذي لا سقف زمنياً له.
هل تفك الهيئة الحصار عن لائحة المشاريع التي تتراوح بين 30 و40 مشروعاً لتقرر الهيئة العامة ما هو ضروري منها وما هو غير ضروري، خاصة أن أكثرية هيئة المكتب منبثقة عن أكثرية في الهيئة العامة؟
إن الإجابة الموضوعية عن هذا التساؤل تبدأ في العودة إلى قواعد الأصول والقول «إن التشريع ضروري» وإن «تشريع الضرورة»، وفق ما أوضح عنه، باطل ومفاعيله خطيرة على الممارسة النيابية وأصولها ودورها على المدى البعيد والمتوسط الأجل ولعل أول مَن يطالب بمثل «هذه المقايضة» هو مقام رئاسة الجمهورية، فاحترام مقام الرئاسة مفروض بوجود الشخص في سدة الرئاسة أم غيابه، فدوره في كونه حامياً للدستور يوجب احترامه ومن لا يقدم على ذلك، فبالتأكيد لا يكنّ الاحترام الواجب لا للرئاسة ولا للرئيس.a