ان يعيد الرئيس دونالد ترامب فرض عقوبات على ايران امر في غاية الاهمّية، بل تحول على الصعيد الإقليمي والدولي. لكنّ ما قد يكون اهمّ من ذلك ان يذهب الرئيس الاميركي الى بلورة مقاربة شاملة تجاه المنطقة كلّها من دون ان يعني ذلك تجاهل ايران نفسها والوضع الداخلي فيها. ما اقدم عليه الرئيس الاميركي خطوة في الاتجاه الصحيح، خصوصا اذا لم تكن مجرّد خطوة معزولة تركّز على الداخل الايراني فقط ولا تأخذ في الاعتبار المشروع التوسّعي للنظام الذي انشأه آية الخميني الراغب أصلا في التمدد، من منطلق مذهبي، في كلّ انحاء المنطقة، خصوصا في العراق.
اذا كان تغيير النظام في ايران او سلوكه ضرورة، وذلك من اجل ان تعود ايران الى الايرانيين، يبقى ان تغيير السياسة الايرانية في المنطقة اكثر من ضرورة. كان من بين الخطوات الذكيّة التي اقدم عليها ترامب دعوته ايران الى حوار من دون شروط. لم تستطع ايران الاستجابة لطلبه بعدما تبيّن انّ لديها شرطين تريد ان يشملهما أي حوار. يتعلّق احدهما بـ«حزب الله» في لبنان الذي تعتبره اهمّ انجاز حققته «الجمهورية الإسلامية» منذ قيامها في العام 1979.
يُعتبر «حزب الله» رمزا للنجاح الايراني. ليس الحزب مجرّد حزب لبناني بمقدار ما انّه تحول الى جيش بحد ذاته يعمل في خدمة ايران خارج الحدود اللبنانية. استطاع الحزب تحويل بيروت الى قاعدة إعلامية لإيران، ذلك ان معظم المحطات الفضائية التي تعمل ايران من خلالها على زعزعة الاستقرار في المنطقة، بما في ذلك القناة التابعة للحوثيين في اليمن واسمها «المسيرة»، انّما تبث من بيروت. استفادت ايران الى ابعد حدود من تجربة «جمهورية الفاكهاني» التي امتدت حتّى العام 1982، عندما كانت الفصائل الفلسطينية تسيطر على جزء من بيروت. كانت بيروت مأوى لمنظمات إرهابية متعددة الانواع والمشارب. من بينها «الجيش الأحمر» الياباني و«بادر ماينهوف» الالمانية وصولا الى «توباماروس»، التي كانت منظمة ثورية في الاوروغواي، نعم في الاوروغواي. من يتذكر تلك الايّام وكيف كانت الاجهزة السورية ترعى بدورها الكردي عبدالله اوجلان قبل ان تجد نفسها مجبرة على تسليمه الى تركيا… او «الجيش السرّي الأرمني لتحرير أرمينيا» الذي كان الهدف من انشائه ابتزاز تركيا أيضا انطلاقا من لبنان.
ليس مطلوبا بالضرورة تغيير النظام الايراني، بل المهم تغيير سلوكه. يكفي ان تعود ايران دولة طبيعية تهتمّ بشؤونها الداخلية وليس بالعراق وسوريا ولبنان واليمن الذي تسعى الى تحويله شوكة في الخاصرة السعودية كي يمكن القول ان هناك إشارات إيجابية تصدر عن طهران.
ثمّة مَن يقول في واشنطن انّ ليس ضروريا إضاعة الوقت في التصدي لإيران خارج ايران وان من الأفضل خنقها من داخل. يرى هؤلاء انه لن تعود حاجة الى الاقدام على أي خطوة في الاقليم ما دامت ايران منشغلة في التصدي للنتائج التي ستترتب على العقوبات الاميركية الجديدة التي ستكون لديها مفاعيل على النظام نفسه. يستخف مثل هذا الكلام بقدرة النظام على المقاومة. أنّه نظام لا يري من خط دفاعي اوّل عن وجوده غير متابعة الهرب الى خارج الحدود الايرانية.
ثمة حاجة الى مقاربة أميركية ذات طابع شامل تغطي المنطقة الممتدة من باب المندب في اليمن الى جنوب العراق ومنطقة الخليج. لا مفرّ من العودة قليلا الى خلف للتأكد كيف بدأ التراجع الاميركي امام العدوانية الايرانية في عهدي جيمي كارتر ورونالد ريغان. لم تفعل اميركا شيئا عندما احتجز الايرانيون ديبلوماسييها في سفارة طهران لمدة 444 يوما ابتداء من تشرين الثاني (نوفمبر) 1979. فتح التخاذل الاميركي الباب على مصراعيه كيف تتابع ايران تحدي الولايات المتحدة. اخرجتها من لبنان بعد سلسلة من العمليات الانتحارية بدأت بتفجير السفارة في عين المريسة في بيروت في نيسان (ابريل) 1983 وما لبثت ان فجرت مقر المارينز قرب مطار العاصمة اللبنانية في الثالث والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) من تلك السنة.
لم تتوقف ايران منذ العام 1983 عن تحقيق مكاسب في لبنان على حساب الشعب اللبناني والمؤسسات الشرعية وصولا الى الوضع الراهن الذي باتت تدعي فيه، بلسان الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري»، انّها تسيطر على الأغلبية في مجلس النواب اللبناني. يقول سليماني ان لدى ايران 74 نائبا من اصل 128 من عدد أعضاء البرلمان اللبناني. لا يوجد مَن يرد عليه ويفحمه من بين النواب الذين اعتبرهم في سلة ايران. هل على لبنان، الذي تمنع ايران تشكيل حكومة فيه، القدرة على الصمود طويلا في ظلّ الازمة الاقتصادية التي يعاني منها؟
هناك ايضا معاناة عراقية من السياسة الايرانية. الى متى يمكن بقاء العراق من دون حكومة. ما حصل في العراق كان نتيجة الاستخفاف الايراني بالولايات المتحدة. على غرار ما حصل في لبنان في 1983، اضطر الاميركيون الى الخروج عسكريا من العراق في 2010. لم تعد هناك قدرة أميركية على تحمل الخسائر البشرية، خصوصا في ظل إدارة باراك أوباما الذي كان يعتبر استرضاء ايران هدفا بحد ذاته.
تراجع الاميركي امام الايراني في كلّ انحاء الشرق الاوسط. هذا ما سمح للايراني بالسعي الى التمدد في اليمن وصولا الى تهديد السفن التي تدخل البحر الأحمر من باب المندب. ما يؤكد حجم التراجع الاميركي امام ايران السياسة الاميركية في سوريا حيث تسرح الميليشيات الايرانية وتمرح في وقت لا يزال غير معروف هل ستنصاع للطلب الروسي – الإسرائيلي الابتعاد مئة كيلومتر عن الجولان؟
ستؤدي العقوبات الاميركية على ايران مفعولها. ولكن متى يبدأ ظهور ذلك؟ في انتظار التغيير الكبير الذي سيحصل في طهران، وهو سيحصل عاجلا ام آجلا، هناك مزيد من الاضرار التي تلحق بلبنان وسوريا والعراق واليمن. لا شكّ ان اميركا كدولة عظمى تمتلك سلاح الدولار والتكنولوجيا المتقدمة والقدرة على الضغط على أوروبا تستطيع الانتظار طويلا.
ستتفوق اميركا على الايرانيين في ممارسة لعبة الانتظار. لكن السؤال الذي سيظل يطرح نفسه لماذا لا مقاربة أميركية شاملة للشرق الاوسط وازماته وفي المواجهة مع ايران. مثل هذه المقاربة ستوفّر الكثير على عدد لا بأس به من الدول والشعوب، خصوصا على الشعب السوري الذي يقاوم منذ ما يزيد على سبع سنوات اعتى الميليشيات الايرانية التي لا تمتلك غير الحقد على كلّ ما هو عربي في المنطقة…