الموجة الحالية من التوتّر في الشرق الأوسط لا تشبه ما عهدناه منذ سنوات طويلة. إدراك هذا لبنانياً، هو الخطوة الأولى بإتجاه مسعى الإنقاذ الفعليّ للأوضاع في بلدنا، وتجنيبه الكؤوس المرّة من أيّ نوع وعيار. تترّس «حزب الله» وراء مشاركته بالحكومة، وعموم مشاركاته في مؤسسات الدولة، وتمثيليته الراسخة في طائفته، ودائرة تحالفاته وتفاهماته، وتداخل اقتصاده السرّي مع عجائب اقتصاد هذا البلد، كل هذا لا يلغي، بل يزيد، الطين بلّة، إن لم تجرِ المسارعة إلى إدراك الاختلاف النوعي بين موجة التوتّر الحالية، العاتية، وغير المسبوقة، وبين العقود المنصرمة، «الإستيعابية» للحزب، بمعنى من المعاني، على مستوى الإقليم.
لا يمكن بالطبع الإتكال على تغيير «حزب الله» لسلوكياته من تلقاء نفسه. فالحزب الذي بات يعامل نفسه على أنّه لا ينفك يُحرز الإنتصار تلو الإنتصار، لم يعد هناك من داخله ما يمكن أن يقنعه بخلاف ذلك، وانعدام التوازن الخطير في المنطقة لصالح ايران وحلفائها يحمله أكثر فأكثر على تجذير هذه القناعة، وعلى تفسيرها بأنّها محطّة تعجيلية لتاريخ الخلاص، بالمعنى الدينيّ، المهدويّ للكلمة. يحسب الحزب كل خطوة يقدم عليها كبيرة أو صغيرة، بدقة لامتناهية، إلا أنّه يحتسب كل هذا بالإستناد إلى خلفية «لا تنتمي» في نهاية المطاف إلى هذا العالم، خلفية أيديولوجية دينية لا يستخدمها فقط كسمات هوية له، أو كمصدر تعبويّ وتحريضيّ يمدّه بالعزم والروح الكفاحية، بل أنّ هذه الخلفية، التي تتجلى أساساً، كمزدوجة «مظلومية منتصرة دائماً من الآن فصاعداً»، لا يمكن التعويل الآن على «تبريد» تمسّك الحزب الخمينيّ بها.
إذاً؟ يدور اختلاف جديّ بين اللبنانيين المناوئين لسياسات الحزب و»ذهابه» بعيداً في تدخلاته بالبلدان العربية، حول ما يمكن وما ينبغي فعله، حيال استمرار أفعال الحزب هذه، والأهم، حيال ظهور استعداد لديه لرفع درجة تدخّله في اليمن، في مقابل اعتباره أنّ الساحة السورية باتت تحت السيطرة، أو بالأحرى، هو يتعرّض على الساحة السورية لإحراج تسببه الضربات الجوية الإسرائيلية لمواقعه، في حين أن زيادة تدخله في اليمن، وفي لحظة الذروة في اطار الصراع بين السعودية وايران، يعتبرها «أقل كلفة» بالنسبة له، وان كانت أكثر كلفة بكثير بالنسبة إلى لبنان واللبنانيين.
هذا الاختلاف ليس في حلّ من الوقت. فالوقت يداهم، انما لا يمكن الفصل في هذا الاختلاف ان ظلّ طرحه قائم بالمواربة والشخصنة والمزايدة. هناك وضع صعب، وينبغي التفتيش عن أفضل الخيارات حياله، علماً أن الخيارات من الندرة بمكان، وليست هناك مجموعة من الخيارات نحتار أيّها الأفضل. وهناك معطيات تتبدّل يوماً بيوم، وساعة فساعة. إنما في الوقت نفسه هناك منطلقات معيارية أساسية، ليس من المصلحة، بالنسبة لخط مناوأة سياسات الحزب وتدخلاته، طرحها جانباً، وفي طليعتها اعتبار السلم الأهلي قضية مقدّسة بالنسبة إلى اللبنانيين، واعتبار كل اللبنانيين من خارج تنظيم «حزب الله» يتلاقون في مكان ما، في مساحة مشتركة، أياً كان موقفهم من «حزب الله»، حلفاء أو أخصام له، أخصام معتدلين او جذريين معه. هذا أيضاً بعد أساسي المكابرة عليه فيها مجلبة للكرب والشؤم بلا طائل.
نحتاج إلى نقاش حقيقي، وسريع، إنما صريح. ما الذي يمكن للّبنانيين فعله لتجنيب البلد شروراً إضافية، وحماية معاشه واقتصاده، وترسيخ منطق التوازن بين جماعاته، وتحرير منطق التوازن من أن يكون، كما درجت العادة أكثر من مرة في التاريخ المعاصر، ستاراً للهيمنة الفئوية والتغلّب. القول بأنّ هناك أجوبة جاهزة شاملة سلفاً، قبل خوض هذا النقاش في إطار مؤتمريّ وطنيّ عاجل هو قول متعسف. الحاجة الى مؤتمر وطني لبناني عام لمناقشة سلاح «حزب الله» وتدخلاته في البلدان العربية، مؤتمر يضع نفسه تحت عنوان الدفاع عن السلم الأهلي وأرزاق الناس وأمنها وأمانها، وحرياتها وكراماتها، ويضع خطة للمواجهة، ومشروع للمصالحة الوطنية في نفس الوقت.
التصرّف حتى الآن كما لو أنّ «الكواليس» تعوّض عن المؤتمر الوطني العام ضرره أكثر من فائدته.