Site icon IMLebanon

الحاجة إلى مبادرة أميركية تؤدي إلى تفاهمات إقليمية

أمام الرئيس باراك أوباما فرصة إحداث تغيير في مسار منطقة الشرق الأوسط لو تملَّك العزم والجرأة والرؤيوية. في وسعه أن يأخذ زمام المبادرة اليوم قبيل إبرام الاتفاق النووي مع إيران أو بالتزامن معه لتوظيف الانتكاسات في انفراجات بين السعودية وإيران. في سورية وفي العراق وفي اليمن وفي لبنان، إن الأوضاع العسكرية والسياسية والاقتصادية مختمرة لإبرام صفقة. وفي المسألة النووية ورفع العقوبات عن طهران مساحة مُتاحة لقيام واشنطن بالتأثير الفعلي والجدي في توجهات ومستقبل إيران من دون أن تُقحِم شروطاً إقليمية على المفاوضات النووية. واشنطن تفهم وتحسن تماماً كيف تفعل ذلك، وكل ما تحتاجه هو اتخاذ الرئيس الأميركي وإدارته والمؤسسة العسكرية الأميركية ذلك القرار. الحرب على «داعش» محرّك آخر لضرورة التقاط باراك أوباما الفرصة المتاحة. تركته الشخصية – التي يبدو انه قنّنها في إيران – معرّضة للهشاشة وقد تتحول إلى لعنة تاريخية له إذا لم يقرن اندفاعه نحو طهران بحكمة وضمير نحو مستقبل المنطقة العربية الممزقة.

لا يليق بالولايات المتحدة أن تنصب إدارتها الحاكمة نفسها محامي الدفاع عن إيران وهي تنتهك القرارات الدولية، وتتلاعب على العقوبات الملزمة، وتتدخل عسكرياً في الأراضي العربية. هذا تماماً ما فعلته إدارة أوباما في الأسبوعين الماضيين لدرجة اللاخجل. كل ذلك بسبب «استقتال» الرئيس ووزير خارجيته جون كيري على إبرام الصفقة مع طهران مهما كلف ذلك. فهما مقتنعان أنهما يصنعان التاريخ من أجل المصلحة الأميركية.

آخر مثال على سياسة غض النظر عن التجاوزات الإيرانية حرصاً على المفاوضات النووية جاء في تقرير رسمي في مجلس الأمن كشف – أخيراً – أن انتهاكات إيران للقرارات الدولية التي تحظر عليها نقل الأسلحة إلى دول أخرى يتم التغاضي عنها في المجلس وخارجه «تجنباً لأي عرقلة للمفاوضات الجارية» حول ملفها النووي.

ليست الولايات المتحدة وحدها التي غضت النظر بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن والمسؤولة عن الأمن والسلم الدوليين. كل هذه الدول تجاهلت عمداً ما توافر لديها من معلومات حول تلاعب إيران بقرارات مجلس الأمن وتحايلها عليها، كما جاء في تقرير مفصل وتقني للجنة العقوبات على إيران في مجلس الأمن أعدته أخيراً هذه اللجنة (راجع عدد أمس الخميس). وشملت التلاعبات محاولة استيراد قطع غيار لطائرات حربية من اليونان، مصدرها إسرائيل.

لجنة العقوبات على إيران أكدت في تقريرها أن إيران مستمرة في نقل الأسلحة في شكل غير مشروع إلى العراق وسورية ولبنان واليمن، وإلى «حزب الله» وحركة «حماس»، لكن البلاغات والإخطارات بهذه الانتهاكات من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة توقفت في الفترة الأخيرة – فترة حماية وصناعة المفاوضات النووية مع إيران. ففي الوقت الذي تمت التغطية على الانتهاكات الإيرانية باسم المفاوضات النووية كانت إيران، وفق ما ذكرت اللجنة، تواصل نقل الأسلحة والأعتدة إلى سورية دفاعاً عن نظام بشار الأسد، وكانت توفر «المستشارين العسكريين» و «المعدات» إلى العراق، بحسب ما أكد وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف. وأفادت اللجنة أن إيران ما زالت تواصل إمداد حكومة إقليم كردستان العراق بالأسلحة لدعمها ضد «داعش».

وفي اليمن، جاء في تقرير اللجنة أن تهريب إيران أسلحة إلى الحوثيين عام 2013 ومحاولتها تهريب أسلحة على متن سفينة جيهان «تندرج ضمن نمط نقل الأسلحة إلى اليمن منذ العام 2009 على أقل تقدير».

أما في المجال النووي، أكدت اللجنة أنها جمعت حقائق عن تلاعب إيران على قرارات مجلس الأمن من خلال محاولات لاستيراد مواد ومعدات تصلح للاستخدام المزدوج في برنامجها النووي وأنظمتها التسلحية. لكن الدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن غضت النظر حرصاً على المفاوضات النووية. بل أن طهران كوفئت بمبلغ 10.43 بليون دولار في شهر نيسان (أبريل) الماضي من «إحدى الدول» كإجراء أولي وجزئي للإفراج عن أصولها المجمدة في المصارف الأجنبية كما أُذِن لها بموجب «الاتفاق الأولي» إعادة أنشطة تصدير النفط – وهذان الرمزان خففا الضغوط على الاقتصاد الإيراني.

إدارة أوباما تقع تحت ضغوط المراقبة والمحاسبة وهي في صدد تناول مسألتين مهمتين من المفاوضات النووية: أولاً: التيقن من أن إيران جاهزة للانفتاح أمام التفتيش الدولي للتأكد من أن قدراتها النووية غير عسكرية إطلاقاً – وهذا الأمر ليس محسوماً. وثانياً، كيفية إعادة فرض العقوبات على إيران إذا أخلّت بتعهداتها وانتهكت القرارات الدولية المعنية – وهذا الأمر مليء بالثقوب ويقع على نغم معادلة العلاقات الأميركية – الروسية – الصينية – البريطانية – الفرنسية.

واضح أن تقرير لجنة العقوبات يعرّي هذه الدول ويفضح هرولتها إلى إرضاء طهران حتى فيما تنتهك إيران القرارات الدولية. سجل إيران يتحدث عن نفسه في إطار الانتهاكات. وسجل الدول الخمس يتحدث عن نفسه في إطار إعفاء طهران من المحاسبة، بل إطلاق العنان لها في طموحاتها الإقليمية.

مثل هذه المواقف للدول الكبرى تشجع ذوي الانتقام من هذه المواقف الذين يرون في تنظيم «داعش» وأمثاله الرد المتاح أمام احتضان الدول الكبرى، شرقاً وغرباً، لإيران وطموحاتها النووية والتوسعية. حان الوقت للتنبه إلى هذا الأمر لأن تداعياته خطيرة جداً. هذه سياسة لها إفرازات ليس فقط على كامل منطقة الشرق الأوسط وإنما أيضاً على الدول المعنية وفي عقر دارها مستقبلاً.

يجب إيقاف طهران عن زحفها على الدول العربية – من العراق إلى سورية إلى لبنان إلى اليمن – وعن محاولاتها التخريبية في دول خليجية. المطلوب أولاً هو الكف عن مباركة الأمر الواقع لهذه السياسة الإيرانية التي تساهم في إنماء الفتنة الطائفية بين السنّة والشيعة والتي ستؤدي إلى تدفق المزيد من المتطوعين لـ «داعش» باعتباره الرد على التجاوزات الإيرانية المباركة دولياً.

المطلوب، ثانياً، هو إبلاغ طهران جدّياً ليس فقط أن عهد المباركة مضى وإنما أيضاً أن المرحلة تتطلب منها تقديم جميع الأدوات المتاحة التي تمكّن الولايات المتحدة – والدول الأربع الأخرى – من التقدم بمبادرة جديدة تطمئن وتضغط في آن واحد على الدول الخليجية القلقة من إيران وفي طليعتها السعودية.

في اليمن الفرصة متاحة. السعودية والدول الأخرى في «التحالف العربي» لا تطمح باحتلال اليمن ولا بالانزلاق إلى مستنقع فيه. تريد إيقاف إيران عن زحفها إلى اليمن عبر الحوثيين الذين صدّرت إليهم السلاح بصورة غير شرعية منتهكة قرارات لمجلس الأمن بموجب الفصل السابع من الميثاق.

فبدلاً من تحدث أقطاب إدارة أوباما بلغة مبطنة لتجنب المواجهة السياسية مع طهران – صيانة للمفاوضات النووية – الأجدى بها أن تطالب إيران بإجراءات محددة وفوراً في اليمن. على الرئيس أوباما أن يتدخل سياسياً بكل وضوح ليبلغ طهران أن اليمن يمكن أن يكون اليوم نقطة انطلاق إلى تفاهمات سعودية – إيرانية إيجابية تنقل الشرق الأوسط إلى عتبة جديدة وتؤدي إلى مواجهة مشتركة للقضاء على «داعش» وأمثاله.

المحطة الأخرى للتفاهمات يمكن أن تكون سورية حيث تبدو الولايات المتحدة جاهزة لدعم ما هرولت إلى تصنيفه في مجلس الأمن في خانة الإرهاب – والكلام عن «جبهة النصرة» – وربما أصبحت جاهزة للكف عن القضاء على إعفاء الرئيس بشار الأسد من المحاسبة. وهذا كي لا يتفشى تنظيم «داعش» في كامل أنحاء سورية.

مصلحة إيران في التوصل إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة والسعودية وتركيا وقطر تكمن في وضوح الوهن والتقهقر على معالم النظام في دمشق وجيشه وكذلك على «حزب الله» الذي يخوض المعركة معه. روسيا بدورها تستفيد من التملص من الأسد اليوم بعدما ضَعُفَ جداً أمام «داعش» ولم يعد حامياً لمصالحها ضد الإسلاميين المتشددين في عقر دارها وجيرتها – وبالتالي يمكن إقناعها أن تصبح جزءاً من الصفقة.

والصفقة قد تتضمن إطلاق تسمية بديلة عن «جبهة النصرة» لتنظيفها من التصنيف الإرهابي لها، مع دعمها عسكرياً وتمكينها أخيراً من مواجهة النظام و «داعش» معاً. هناك كلام عن انشقاقات في الجيش السوري قد تؤدي بعناصر منه إلى الالتحاق بتلك التسمية الجديدة، وهكذا ينهار ما مثّله الأسد من نظام مع صياغة نظام بديل ليس واضحاً إن كان للأسد الآخر – ماهر الأسد شقيق بشار – دور فيه أو إن كان نظام تلك التسمية الجديدة.

باراك أوباما قادر على أخذ زمام المبادرة بما يؤدي إلى تفاهمات سعودية – إيرانية في سورية تقع في المصلحة الأميركية والروسية. وما عليه سوى الإقدام بعزيمة ثابتة.

لبنان مدخل آخر سهل على الرئيس باراك أوباما لو شاء توظيفه. أمامه الباب الإنساني المتمثل باللاجئين السوريين. وأمامه النافذة السياسية المتمثلة بضرورة انتخاب رئيس للجمهورية – الأمر الذي بات ضرورياً. ثم هناك الناحية الأمنية المتمثلة باحتمال دخول «داعش» الأراضي اللبنانية لمطاردة «حزب الله» الذي دخل الأراضي السورية ليحارب مع النظام في دمشق. كل هذه الأمور يجب أن تدفع أوباما إلى تقديم صفقة التفاهمات الضرورية لكل من السعودية وإيران.

ثم هناك العراق الذي يتواجد فيه الآن 3500 عنصر عسكري أميركي والذي تتصادم فيه الميليشيات الشيعية التابعة لإيران مع القيادات السنّية التي من الضروري إبرام مصالحات معها لتكون سنداً وحليفاً في مواجهة «داعش». هنا أيضاً يجدر بالرئيس الأميركي أن يصارح إيران حول الحاجة إلى كفها عن سياساتها التحريضية والاستفزازية في العراق وأن يصارح السعودية بضرورة انخراطها مع القيادات السنّية ومع الحكومة العراقية.

لا منطق وراء تملص الرئيس الأميركي من فرصة تحوّل نوعي إيجابي لمجرد انه يخشى تأثيره على المفاوضات النووية. إن الولايات المتحدة دولة عظمى يجب أن تبقى في موقع التأثير والنفوذ والقيادة والإقدام. والكرة الآن في ملعب باراك أوباما.