Site icon IMLebanon

ضرورة الاشتباك مع إيران وتركيا وإسرائيل

تمثل الدول الثلاث غير العربية والمؤثرة في أوضاع الوطن العربي مثلثاً رؤوسه هي إيران وتركيا وإسرائيل بينما أضلاعه حدود ممتدة تحيط بمنطقتي الخليج العربي والشام الكبير الذي يحتوي – غالباً – العراق بحجمه وحضاراته، والذي يعنينا في السطور المقبلة هو أن نقوم بعملية تصنيف شامل لمواقف الدول الثلاث من الوجود العربي المسيطر في المنطقة، حيث يحتل العرب موقع التأثير الثقافي في غرب آسيا الذي يمتد إلى شمال أفريقيا، وهو ما يعني أن للعرب الغلبة الثقافية، لكن ليست لهم بالضرورة السيطرة العسكرية أو الهيمنة السياسية، والأمر في هذا المعنى يحتاج إلى دراسة شاملة نوجزها في التحليل ألآتي:

أولاً: إيران

رغم أن إيران دولة آسيوية كبيرة قامت فيها ثورة إسلامية أطاحت حكم الشاه في العام 1979، إلا أن كل المؤشرات توحي باتساع هوة الخلاف بينها وبين الدول العربية، حتى أن دولة مثل مصر لم تقبل حتى الآن بإعادة العلاقات الديبلوماسية مع طهران. كما أن استخدام الثورة الإيرانية للاختلاف المذهبي بين أتباع المذهبين الشيعي والسنّي تحول إلى أحد أسباب الحساسية بين إيران وجيرانها، خصوصاً أن أهل السنّة هم الأغلب الأعم بين المسلمين.

وبلغت المواجهة قمتها في ذلك الصدام العسكري على أرض اليمن بين الحكومة الشرعية المنتخبة مدعومة بالمملكة العربية السعودية، والحوثيين مدعومين بالدولة الفارسية. ولا شك في أن تلك الحرب لم تكن وليدة الأحداث التي حصلت وقتها، لكنها نتيجة طبيعية لتراكم المواقف التاريخية والمواجهات السياسية على امتداد القرون، فالتشيع العربي سبق التشيع الإيراني بمئات السنين، ولا يجب النظر إطلاقاً إلى العلاقة بين العرب والفرس من منظور المذهب الديني لأن الصراع قومي بالدرجة الأولى عرفته المنطقة منذ مئات السنين.

ونحن لا نشكك في أن إيران قوة إقليمية لها ثقل جغرافي واستراتيجي كما أننا نسلم بنجاح ديبلوماسيتها، بل ونعترف بذكائها خصوصاً في مفاوضات الملف النووي مع الولايات المتحدة والغرب عموماً على امتداد عقدين كاملين من الزمان حتى كادت إيران أن تكون طوال تلك الحقبة هي الناطق الرسمي الأوحد باسم دول غرب آسيا والشرق الأوسط، بصورة مكنتها من أن تلعب دوراً كبيراً في الأزمة السورية وحماية نظام بشار الأسد مدعومة بأتباعها في المنطقة، خصوصاً «حزب الله» اللبناني. وجاءت المواجهة الأخيرة بين دول الخليج وإيران على أرض اليمن بمثابة رفض للإنفراد الإيراني الذي يتصور نفسه دائماً شرطي الخليج الأوحد.

لا شك في أن خفوت الدور المصري والتمزق السوري والانقسام العراقي عوامل صعدت بها إيران إلى المقدمة. وينبغي أن نسجل هنا أن إيران دولة لا تخلو سياستها الخارجية من غموض، كما أن تصريحاتها الرسمية تبدو أحياناً مختلفة عن واقعها السياسي. وعندما زار أحمدي نجاد مصر وأمسك بالأسوار الحديد لقبر السيدة زينب وأجهش في البكاء فإن ذلك كان إشارة إلى رغبة دفينة في التواجد قرب المزارات المقدسة لدى الشيعة في كل مكان عربي.

ونحن الآن بصدد الانتخابات الأميركية، ولو حدثت معجزة وفاز دونالد ترامب، فإن الاتفاق النووي الإيراني الأميركي مهدد بالسقوط. لكن الشيء المؤكد هو أن المملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر لن تقبل في مجموعها سيطرة منفردة من جانب إيران كي تكون اللاعب الرئيس على المسرح الإقليمي في الشرق الأوسط.

ثانياً: تركيا

لا توجد علاقة ملتبسة ومعقدة بدول المنطقة مثلما هو الأمر بين تركيا والعرب، وذلك لأسباب عدة أولها الميراث التاريخي للهيمنة التركية على المنطقة عبر قرون عدة في ظل الخلافة العثمانية، وثانيها أن الجمهورية التركية التي قامت على مبادئ أتاتورك العلمانية قد اتخذت طريقاً يختلف مع العرب في إقامة أنقرة لعلاقات استراتيجية، بل وعسكرية، مع إسرائيل، فضلاً عن أن تركيا دولة عضو في حلف الأطلسي، كما أن العلاقات بين أنقرة وواشنطن قوية وتاريخية، والسبب الثالث هو أن تركيا تفضل أن تكون في مؤخر الاتحاد الأوروبي بدل أن تكون في طليعة الشرق الأوسط. وهي تسعى دائماً إلى استعادة دورها في المنطقة العربية حتى يكون بمثابة أوراق اعتماد قوية تتقدم بها إلى الاتحاد الأوروبي الذي يرفض عضويتها في شكل متزايد حتى ان الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان قال عندما كان رئيساً للجنة دستور الاتحاد الأوروبي إن عضوية تركيا غير مقبولة، ولو أخذنا بالموقع الجغرافي والسياق التاريخي فإن دولة مثل المغرب قد تكون أقرب منها إلى الاتحاد الأوروبي.

ولعل العامل الأساس الذي نضيفه إلى مظاهر الالتباس في العلاقة بين تركيا والعرب هو تبني القيادة التركية الحالية توجهاً إسلامياً بالتنسيق مع الولايات المتحدة من أجل استعادة الهيمنة التركية تحت عباءة وهمية لدولة الخلافة المصطنعة من جديد. ولعل ما جرى في مصر بإزاحة حكم «الإخوان المسلمين» كان نتيجة طبيعية لاكتشاف المخطط التركي، علماً أن أنقرة ما زالت تناصب نظام الحكم الحالي في القاهرة العداء تحت تأثير فلول جماعة «الإخوان».

وواقع الأمر أن التحالفات الإقليمية والارتباطات الدولية في منطقة الشرق الأوسط أصبحت شديدة التعقيد وليست فيها مواقف حدية إذ إن بين الأبيض والأسود مساحات واسعة لدرجات مختلفة من الاقتراب والابتعاد، فلم تعد هناك تحالفات كاملة ولا عداءات كاملة، وذلك في حد ذاته تحول كبير في سيكولوجية الصراع الدولي والإقليمي. ولا شك في أن الدور التركي الذي يقترب من السياسة القطرية غالباً، ومن السياسة السعودية أحياناً، هو دور قابل للتغيير وفقاً للأوضاع الداخلية في الدولة التركية. وإذا وضعنا في الاعتبار الحساسيات التاريخية للعلاقة الإيرانية – التركية والاختلاف بينهما حول الأزمة السورية، لأدركنا أن مستقبل المنطقة محكوم بمؤشرات عدة تجعل التنبؤ السياسي أمراً صعباً، خصوصاً في ظل تنامي الدور الروسي في المنطقة وموقف موسكو من الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه، إذ إن روسيا تقترب من السياسة الإيرانية أحياناً وتبتعد من السياسة التركية غالباً، وذلك امتداد لأدوار تاريخية معروفة في طبيعة علاقات الجوار بين دول المثلث الروسي – الإيراني – التركي. ولعلنا ندرك أن التنسيق مستمر بين روسيا وإسرائيل، خصوصاً في ما يتصل بمواقف الدول المحيطة بسورية وموقف كل منها تجاه المخرج المحتمل للأزمة التي جاوزت في عمرها السنوات الخمس.

ثالثاً: إسرائيل

لا يخالجني شك في أن الدولة العبرية هي اللاعب الأساس في المنطقة، بحكم علاقتها الوثيقة مع العالم الغربي، خصوصاً الولايات المتحدة. والكل يدرك أن إسرائيل ترقب عن كثب المتغيرات كافة في المنطقة وتجني تلقائياً ثمارها من أخطاء العرب وغير العرب. وليس من شك في أن إسرائيل تملك تصوراً شاملاً لمستقبل المنطقة العربية، بل والشرق الأوسط كله، خصوصاً أن المخاوف التي كانت تعيش بها على امتداد العقود الماضية لم يعد لها التأثير نفسه، فقد وقعت إسرائيل مع مصر اتفاق سلام يجعل يد الجيش المصري مغلولة، كما أن الجيش العراقي خرج من الساحة تماماً منذ العام 2003، أما الجيش السوري فهو منغمس في حمامات الدم التي تعيشها سورية في السنوات الخمس الأخيرة، وبذلك لم يعد أمام إسرائيل ما تخشاه إلا البرنامج النووي الإيراني.

وأظن أن الولايات المتحدة قدمت لها ضمانات كافية في هذا الشأن، في ظل شكوك قوية لاتصالات مباشرة بين إسرائيل وأطراف إيرانية. لذلك فإن كل شيء مطروح على الساحة الإقليمية هو ناجم عن علاقات تحتية غير مباشرة بين القوى المختلفة، ولعلي أجاهر هنا بأهمية فتح قنوات عربية مع القوى الإقليمية الثلاث في طهران وأنقرة وتل أبيب. ولا يعني الاشتباك الديبلوماسي والسياسي حالاً من الرضا والحب أو الرفض والكراهية، فالعلاقات الدولية تقوم على المصالح ولا شيء غيرها. ويمكن من رصد التحركات السريعة في المنطقة أن ندرك أن ملاحقة مواقف الدول أصبحت تحتاج مزيداً من المعرفة الكاملة والمتابعة الدقيقة للاتصالات المعلنة والتسريبات الخفية في ما بين تلك الدول.

رابعاً: قوى أخرى في شرق أفريقيا

لا يمكن إغفال أهمية منطقة القرن الأفريقي ودول شرق القارة المتاخمة مباشرة لحدود الوطن العربي، خصوصاً أن إثيوبيا تسعى إلى أن تكون قوة صاعدة. ولا بأس أن تتخذ أديس أبابا موقفاً معادياً لبعض العرب، ولو بأسلوب مستتر. وتعتبر أزمة «سد النهضة» بين أديس أبابا والقاهرة نموذجاً لتحول الخلاف السياسي إلى خصومة مستمرة وإن لم تأخذ شكلها العلني ودورها الكامل. تحتاج العلاقات العربية – الأفريقية دراسة واسعة وفهم عميق يخرج بها من دائرة الحساسيات التاريخية إلى دائرة التعاون المشترك الذي تفرضه روح العصر.

هذه قراءة عامة في شأن إقليمي لا يختلف عليه كثيرون، وأعني به الوضع الإقليمي في المنطقة العربية وحولها من خلال دراسة القوى الكبرى المحيطة بنا لعلنا ندرك الحقيقة قبل فوات الأوان.