نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريراً حول المغامرة الجديدة التي قررت ادارة الرئيس بايدن ركوبها في منطقة البحر الاحمر والخليج من خلال ارسالها لسفينتين جديدتين من اسطولها الى البحر الاحمر، وعليها ثلاثة آلاف بحار وجندي من المارينز، الامر الذي قد يقود الى اندلاع حرب مع ايران. ويتحدث التقرير عن قرار اميركي بالسماح لجنود المارينز بالتواجد على سفن تجارية وناقلات نفط من اجل حمايتها من الاعتداءات التي يمكن ان يشنها عليها الحرس الثوري الايراني اثناء عبورها في مضيق هرموز او في خليج عمان.
يأتي هذا التصعيد «غير المألوف» في القرار الأميركي ضد ايران في اعقاب فشل المفاوضات الاميركية – الايرانية حول عودة واشنطن للاتفاق النووي، مع فرض ضوابط جديدة على ايران، مع تجاهل كل اسباب وعناصر نجاح الدبلوماسية التي اعتمدها الرئيس باراك اوباما للتوصل الى الاتفاقية النووية التي وقعتها القوى الدولية (1+5) مع ايران في عام 2015، والتي خرج منها الرئيس دونالد ترامب بقرار رئاسي عام 2018، مع فرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على طهران.
من المؤكد انه لا يمكن تحميل ادارة بايدن وحدها مسؤولية فشل المفاوضات مع ايران، حيث تتحمل الدبلوماسية الايرانية جزءاً مهماً من مسؤولية افشال المفاوضات والوصول الى الحائط المسدود. لكن لا يمكن في المقابل تجاهل تشدد الموقف الاميركي في الحفاظ على العقوبات التي فرضها ترامب على ايران، بالرغم من انتقادات الادارة الديمقراطية لسياسة الضغوط القصوى التي طبقها ترامب ضد ايران دولياً وعلى مستوى المنطقة، لكن عادت ادارة بايدن لتعتمد الاستراتيجية المتشددة التي اعتمدها ترامب من خلال التشدد في تنفيذ العقوبات، والتي وصلت الى حد مصادرة شحنات النفط الايرانية في اعالي البحار، وبما يخالف القوانين الدولية.
ردّت ايران على تبني بايدن لاستراتيجية ترامب في تنفيذ العقوبات باستهداف ناقلات نفط وسفن تجارية مملوكة من حلفاء او اصدقاء الولايات المتحدة اثناء عبورها لمضيق هرمز او في خليج عمان، وهذا ما دفع الادارة الاميركية لارسال المزيد من قواتها البحرية والجوية والبرية الى البحر الاحمر والخليج لمنع حصول مزيد من الاعتداءات الايرانية على السفن التجارية وناقلات النفط، وخصوصاً عند عبورها لمضيقي هرموز وباب المندب، او لدى ابحارها في خليج عمان.
في رأينا يمكن النظر الى إيفاد هذه القوة الاميركية الجديدة الى المنطقة مع مهمة مرافقة السفن في المنطقة، سواء لجهة ارسال اسراب من طائرات اف-18 واف-35 الى المنطقة، واجراء مناورات جوية وبحرية متكررة، واهمها مشاركة 6400 جندي اميركي و100 طائرة مقاتلة في مناورة كبرى مع اسرائيل دامت لمدة ثلاثة ايام. هذا بالاضافة الى مهمات طيران متكررة للقاذفات الاستراتيجية B-52 وB-1-B فوق الخليج وعلى مقربة من الحدود الايرانية.
ربطت واشنطن هذا الحشد العسكري المتصاعد في منطقة البحر الاحمر والخليج بضرورات ردع ايران عن عرقلة الملاحة في المنطقة، وذلك بعد مضايقتها واحتجازها في السنتين الاخيرتين لاكثر من 20 ناقلة نفط ومركب تجاري. وردت ايران على التوضيحات الاميركية بلسان الناطق باسم الخارجية الايرانية ناصر كنعاني، بأن هذا الانتشار يأتي لخدمة اهداف واشنطن في المنطقة «فالوجود العسكري الاميركي في المنطقة لم يحقق اي هدف أمني، بل هدف دائماً لخدمة مصالحهم، ولإثارة اجواء من عدم الاستقرار وتعكير الأمن».
في الواقع لا يمكن ربط هذا التبدل الاستراتيجي الكبير في الموقف الاميركي تجاه المنطقة بمضايقات ايران لحركة الملاحة فقط، وتقضي الامور النظر الى مجموعة من التطورات الجديدة التي طرأت على الوضع الجيوستراتيجي في المنطقة وابرزها:
اولاً: دخول الصين كلاعب استراتيجي في المنطقة، وذلك بعد رعايتها للاتفاق الايراني – السعودي الذي جرى توقيعه في بجينغ، والذي فتح امام الصين الباب لتوقيع اتفاقات استراتيجية وتجارية مع ايران ومع المملكة العربية السعودية.
ثانياً: تبني ادارة بايدن لفكرة استكمال اتفاقات «إبراهام» بين الدول العربية واسرائيل، من خلال العمل عى تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب. وكان ولي العهد محمد بن سلمان قد وضع شرطين للقبول بالتطبيع: الاول: توقيع معاهدة دفاع مع الولايات المتحدة، وتسهيل حصول المملكة على امتلاك بنية نووية معترف بها دولياً، وترضى عنها اسرائيل، والثاني الضغط على اسرائيل لاحترام حقوق الفلسطينيين، وبما يؤدي لاقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة.
ثالثاً: العمل على منع ايران من تطبيع علاقاتها مع الدول العربية الخليجية وذلك على ضوء الدعوات التي وجهتها السلطات الايرانية لوزيري خارجية الكويت ودولة الامارات لزيارة طهران، مع السعي للتخريب على عملية التطبيع واعادة فتح السفارتين الايرانية والسعودية في طهران والرياض.
رابعاً: يأتي قرار بايدن بوضع جنود المارينز على ظهر السفن التجارية لمواكبتها لدى مرورها في مضيف هرمز في اطار التجاوب مع ضغوط الدول الخليجية على الادارة الاميركية بأنها لا تقوم بأية خطوات لحماية خطوط شحن النفط من الاعتداءات الايرانية. وكانت دولة الامارات مع المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان قد هددت بالانضمام الى تحالف بحري بقيادة الصين وعضوية ايران لتأمين خطوط الملاحة في الخليج وفي خليج عمان وفي البحر الاحمر. من المؤكد بأن التهديد باعتماد مثل هذا الخيار لا يعني تغيير نظرة هذه الدول الى ايران «كعدو» يسعى لفرض هيمنته على المنطقة ككل. ولكن سياسة الولايات المتحدة في السنوات الماضية للتخلي عن مسؤولياتها ووعودها الامنية تجاه الدول الخليجية، تعطي المبررات لهذه الدول للتقارب من طهران، وبالتالي البحث عن اتفاقات تعاون برعاية صينية.
خامساً: يأتي هذا الحشد العسكري الجديد وهذا التبدل في الاستراتيجية الأميركية،في أبعاده السياسية وتوقيته،ليخدم معركة بايدن الرئاسية سواء لجهة مواجهة الضغوط والاتهامات الجمهوريين له بالضعف وعدم القدرة على اتخاذ قرارات سياسية حاسمة. كما انه يحظى على رضى اسرائيل واللوبي الصهيوني المطالب دائماً بمواجهة ايران والاقتصاص منها على سياساتها المعادية للدولة العبرية.
في النهاية يبدو ان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قد نجح في اجبار بادين على تغيير خياراته الاستراتيجية تجاه الخليج والمنطقة عموماً، حيث نرى ان هناك تشدداً في الموقف الاميركي تجاه ايران بدءاً من سوريا من خلال اغلاق الممرات على الحدود العراقية – السورية في منطقة «البوكمال» ووصولاً الى الخليج من خلال وقف التهديدات الايرانية لخطوط الملاحة ووقف عمليات زعزعة الاستقرار الاقليمي.
في الاستنتاج العام، لن يزيد هذا الحشد العسكري الاميركي من احتمالات اندلاع حرب اميركية – ايرانية، بل سيؤدي الى تعقُّل القيادة الايرانية، ودفعها للتخلي عن عملياتها المزعزعة للاستقرار، وتهديد أمن خطوط الملاحة البحرية في الخليج وفي البحر الاحمر، وذلك انطلاقاً من حنكة الدبلوماسية الايرانية، ورغبة قياداتها في تفادي ركوب مغامرة الانزلاق الى حرب مع الولايات المتحدة.