التوتر المتصاعد والمصحوب بتعزيزات عسكرية على الساحة السورية والذي يترافق مع احداث داخلية لا يمكن تصنيفه ووضعه في اطار عادي ومحدود. فما يحصل يأتي في اطار السياسة الاميركية الجديدة تجاه الشرق الاوسط عموما، وتجاه نظرة واشنطن الى سوريا والعراق خصوصا، وبالتالي في اطار الضغوط والسعي الى توسيع مساحات النفوذ، ولو انّ ذلك لن يصل الى مستوى الدخول في حرب مباشرة كما يتوهّم البعض.
ولم يعد سراً انّ مراكز صنع القرار في واشنطن كانت قد أجرت اعادة تقويم شاملة لخطتها القاضية بالانسحاب قدر الامكان من ساحات الشرق الاوسط. ويومها باشرت واشنطن في التخفيف من حضورها العسكري وسحب اسلحتها المتطورة اضافة الى قوتها البحرية الضاربة ولا سيما منها حاملات الطائرات ووجهتها لتصبح في خدمة خطة انتشار جديدة تهدف الى احتواء التمدد الصيني على الرقعة الدولية.
لكن واشنطن سرعان ما اكتشفت خطأها وبدأت استدارتها لإعادة تثبيت حضورها في الشرق الاوسط وعدم ترك فراغات كانت تعمل روسيا والصين على ملئها بسرعة. لكن هذه العودة لم تحصل بالسلاسة التي املت بها واشنطن، بدءاً من دول الخليج العربي وفي طليعتها السعودية التي وجدت نفسها مكشوفة امنياً وعسكرياً في وجه ايران، بعد ان شعرت أن واشنطن تخلّت عنها وأهملتها، ووصولاً الى العراق وسوريا ولبنان حيث سارعت ايران الى توسيع دائرة نفوذها الى الحد الاقصى من خلال احكام قبضتها على الانظمة السياسية في العواصم الثلاث وترسيخ حضورها الميداني والديموغرافي على الارض. ولا حاجة لاستذكار «انتفاضة» ولي العهد السعودي في وجه سياسة الاهمال الاميركية، ما جعله يرفع السقف في بطاقة النفط التي يمسك بها وفي الوقت نفسه تنشيط خطوط انفتاحه على الصين كضمان دولي في وجه ايران.
وفي اطار التوجس السعودي من وجود تفاهمات سرية بين واشنطن وطهران أمنتها كواليس التفاوض المفتوحة عبر سلطنة عمان، باشرت السعودية درس مشروع يؤدي الى نقل خطوط امددادات النفط العالمية من مياه الخليج العربي حيث تعمل ايران على فرض سطوتها البحرية، الى الساحل الشرقي لإفريقيا وتحديدا في اتجاه الساحل السوداني، لكن الحرب الاهلية اندلعت لاحقا وعملت ايران على تزويد الجيش السوداني الاسلحة والذخائر لاجهاض الجهود السعودية لوقف الحرب. ولكن السعودية التي تحمل لائحة طويلة من اسباب الغضب على سياسة واشنطن في الشرق الاوسط، تدرك في الوقت نفسه أن المنطقة ممسوكة جيدا خصوصا من الناحيتين العسكرية والامنية بواسطة الجيش الاميركي.
وهكذا ورداً على تجاوز ايران للخط الاحمر الموضوع لدى استهدافها شركة «أرامكو» وفي الوقت نفسه لإرضاء السعودية، اغتالت المخابرات الاميركية قاسم سليماني في بغداد وهو الذي كان يلعب مهمة القائد الايراني العسكري والسياسي خارج حدود ايران.
ووسط تراجع عامل الثقة بين السعودية والادارة الاميركية باستثناء الجيش الاميركي، اعادت واشنطن طرح استراتيجيتها الجديدة القائمة على اعادة تثبيت حضورها في الشرق الاوسط والخليج من خلال اعادة رسم استراتيجيتها.
ومن الطبيعي الاعتقاد أن العواصم الخليجية لا تثق بالجدية الاميركية في مشروع مواجهة ايران والحد من انفلاش نفوذها الاقليمي، وهي متوجسة من تقاطع المصالح المخفية بين الطرفين. ولذلك فإن الدول الخليجية سيرتفع منسوب توجسها مع ظهور تفاهمات «غامضة» بين واشنطن وطهران حيال الملف النووي كما حصل خلال المرحلة الماضية. لذلك وجدت في تفاهمها مع ايران برعاية صينية ورقة قوية لمصلحتها. ولطالما ردد ديبلوماسيون سعوديون أن اليمن يشكل ساحة اختبار للنيات الايرانية قبل الانتقال الى سوريا ولبنان، وغالب الظن ان الكلام السعودي ليس موجها فقط في اتجاه ايران بل ضمناً في اتجاه واشنطن وعلى اعتبار ان السعودية لن تساهم في سوريا ولبنان قبل ضمان امنها ومصالحها في اليمن وبحر الخليج. ذلك ان الرياض تدرك جيدا اهمية الساحتين السورية واللبنانية للاميركيين خصوصا لجهة تأثيرهما المباشر على الساحة الاسرائيلية. وبالتالي، فإن السعودية التي تخشى موافقة اميركية على حصة لإيران في ممرات النفط البحرية، تلوح بأنها لن تقدم على اي مساعدة مالية او سياسية في سوريا ولبنان في وجه النفوذ الايراني. لذلك اعادت ادارة بايدن طرح رؤيا جديدة في علاقاتها مع السعودية ضمن صفقة اوسع تشمل تطبيعاً سعودياً مع اسرائيل ومنح السعودية الموافقة على انشاء برنامج نووي مدني ولكنه ضمناً يحمل عدة معان امنية، واقامة معاهدة عسكرية اميركية ـ سعودية تسمح بوجود أفعل للقوات الاميركية وتوفير معدات عسكرية متطورة تكنولوجياً، وان تلتزم اسرائيل سياسة اكثر مرونة تجاه مطالب السلطة الفلسطينية لجهة تكريس مبدأ «الدولتين».
وفي الوقت نفسه ستضمن هذه الصفقة تخفيف مستوى الغضب السعودي وبالتالي عدم الانخراط في السباق الانتخابي لمصلحة دونالد ترامب او لمصلحة الحزب الجمهوري. ذلك ان الحملات الجمهورية على ادارة بايدن تحمل عناوين الفشل في السياسة الخارجية الاميركية خصوصا مع تكشف بنود الصفقة الاميركية ـ الايرانية لجهة تحرير السجناء مقابل ارصدة مالية، وهو ما وصفه الجمهوريون بأنه سلوك يشجع ايران على سياسة الابتزاز. اضف الى ذلك، ان اخلاء السفارة الاميركية في النيجر هو اخلاء لسادس سفارة اميركية في ولاية بايدن وهو ما يعني تراجع الهيبة الاميركية على المستوى الدولي.
وفي هذا السياق اندفعت واشنطن في مشوار تثبيت استراتيجية جديدة في العراق وسوريا لجهة اعادة تعديل المعادلات القائمة لمصلحة النفوذ الاميركي على حساب النفوذ الايراني الواسع الحاصل حالياً. ولذلك اعادت واشنطن ترتيب اوراق ضغطها في سوريا تحت سقف الاتفاق الشفوي الذي أنجزته مع طهران حول الملف النووي خلال الاسابيع الماضية.
وهي أعطت في خطتها الجديدة دوراً واسعاً لتركيا، وهو ما ظهر خلال الاجتماع الاخير لدول حلف شمال الاطلسي، والذي نتجت منه ايضا خطوة غير مألوفة على مستوى دول حلف «الناتو» والتي تقضي بفتح مكتب لها في العاصمة الاردنية. ومن المنطقي الاعتقاد أن هذه الخطوة تأتي في سياق الحد من النفوذ الايراني في سوريا. واستكملت واشنطن حركتها برفع مستوى الضغوط العسكرية ووضع اليد على معبر البوكمال أو بعبارة اخرى الطريق البرية التي تربط ايران بسوريا ولبنان. واضافة الى تركيا والمجموعات الكردية، فالارجح ان القيادة العسكرية الاميركية ستسعى لتوظيف المجموعات السورية التي كانت قد تولّت تدريبها في مراحل سابقة، وتكليفها مهمات داخل سوريا واستغلال عودة ظهور تنظيم «داعش» في البادية السورية، وايضاً رفع مستوى الضغوط الاقتصادية لمواكبة التحركات الشعبية نتيجة الاوضاع الحياتية الصعبة والقاسية، والعمل على توظيف هذه التحركات في الاطار السياسي.
ولا تستبعد اوساط مراقبة ايلاء مهمات لقاعدة «انجرليك» الاميركية الضخمة في تركيا والقريبة من الحدود السورية، لجهة شن غارات جوية وتأمين خدمات لوجستية لقوات التحالف، وهذا سيجعل القوات الروسية اكثر حذراً إزاء التورط في اي حركة عسكرية خصوصا على المستوى الجوي.
ولكن الاعتقاد المتهور للبعض بإمكانية انزلاق خطة الضغوط الموضوعة لحرب مباشرة مفتوحة، هو اعتقاد غير واقعي بتاتاً فللعبة الحاصلة حدود مرسومة بضوابط حازمة وواضحة. والمسار الذي ستأخذه خطة الضغوط في سوريا سيكون لها تأثير مباشر على لبنان، خصوصا مع ارتفاع مستوى القلق الاميركي كما الاسرائيلي لتعاظم القوة العسكرية لـ»حزب الله» عند الحدود اللبنانية الجنوبية ما بين الصواريخ ونحو ألفي مسيّرة وقوة برية اكتسبت خبرات قتالية عالية وقادرة على اجتياز الحدود. وهو ما يعزز الاعتقاد بأن التحرك الاميركي في اتجاه لبنان لإنجاز التسوية السياسية والرئاسية تحديدا مع «حزب الله» في حاجة لأن ينتظر مآل التطورات الحاصلة والضاغطة في سوريا. وقد تتدحرج الامور خلال اسابيع، وقد تطول ايضا بضعة اشهر فلا احد يستطيع التنبؤ مسبقاً بالمسار الميداني للامور.
ومن هنا بوشر التحضير لاحتمالات الاستحقاقات المفصلية خصوصا استحقاق قيادة الجيش في العاشر من كانون الثاني المقبل مع وضع خط احمر بالعريض بضرورة عدم اللعب «بنار» الجيش وتعريض المؤسسة للتجاذبات اللبنانية الصغيرة المرتكزة على اساس المصالح الضيقة والخاصة.
وان هذه التحذيرات الحازمة تلقتها المرجعيات الرسمية الاساسية وهي لذلك باشرت في وضع الخطط المطلوبة في حال الوصول الى مطلع السنة المقبلة ولم تكن بعد النتائج المطلوبة من سوريا قد ظهرت بعد، ما سيعني مزيدا من الانتظار لبنانياً. وما عدا ذلك حركة بلا بركة، و«ضحك على الدقون».