صدمتان الأولى إيجابيّة جداً والثانية محيّرة تتولّدان لدى المراقب بعد سماعهِ قرارَ الدولةِ المصريّةِ نقلَ العاصمة الإدارية لمصر خارج القاهرة.
من الأخبار الجيّدة جدا التي أتت من مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي الذي انعقد قبل أيام قليلة هو الإعلان عن البدء في مشروع إنشاء عاصمة إدارية جديدة لمصر بدل القاهرة.
إذن اقتنعتْ أخيرا النخبة الحاكمة المصرية، ومعها جزء كبير من النخب السياسية الاقتصادية والثقافية بضرورة نقل العاصمة الإدارية للدولة المصرية وانتقل المشروع إلى حيِّز التنفيذ باختيار مساحة شرقا تقع تقريبا في منتصف الطريق الصحراوي بين القاهرة والسويس وعلى بعد 45 كيلومتراً من القاهرة.
هناك حاليا نقاشٌ بادئ ومفتوحٌ وواسعٌ بين الخبراء والمثقفين المصريّين حول خطة بل خطط العاصمة الجديدة التي نُشِرتْ خرائط مجسّماتها العامة. طبعا الدولة بقيادتها الجديدة التي ظهر أنها وصلت إلى مرحلة متقدّمة من التحضير الفني والمالي والاستثماري لمشروع العاصمة الجديدة… هي مع المشروع. مقابل ذلك هناك أسئلة يطرحها خبراء ومعنيّون مصريون عن جدوى المشروع الجديد إذا كان قريبا إلى هذا الحد من القاهرة بما يمكن أن يحوّل المدينة الجديدة سريعاً إلى ضاحية أو امتداد آخر للعاصمة الحالية بما يعنيه هذا القرب من ضغط وتداخل بين البنى التحتيّة القديمة المتعَبة والجديدة ناهيك طبعا عن أسئلة حول الشخصيّة العمرانية الحديثة جدا من ناطحات وغيرها في المدينة الجديدة.
في الواقع، وكمراقب عربي معني بهذا القرار التاريخي، فقد تولّد عندي انطباعان بعد سماع الخبر، أو تلقّيتُ صدمتين الأولى إيجابية بل مُفرحة جدا والثانية إن لم تكن سلبية فهي محيِّرة:
الإيجابية هي أن الدولة المصرية حسمت أخيرا أمرها وقررت نقل العاصمة بعد عقود من التردّد.
نقلُ العاصمةِ يعني انضمام الدولة العربية الأكبر سكانا وثقافة وجيشا وإرثاً دولتيّاً إلى دول كبيرة في العالم قامت بنقل عاصمتها وفصلها عن المدينة الكبرى أو واقع المدينة الكبرى كالبرازيل ونيجيريا وكازاخستان وقبل ذلك الجمهورية التركية حتى لو تحوّلت أنقرة، البلدة القديمة الصغيرة السابقة في الأناضول، إلى مدينة كبيرة جدا لاحقا وخلال أقل من مائة عام بل إلى متروبول كبير لا يزال طبعا دون الميغا – سيتي اسطنبول. وقد أثبتت كل تلك التجارب لا سيما البرازيل وتركيا أن المدن التاريخيّة التي تخرج منها “العواصميّة” لا تحتفظ بأهميتها الاقتصادية والسياحية والثقافيّة فقط بل تصبح أهم على هذه الأصعدة أيضا. وهذا يعني أن مشروع نقل العاصمة المصرية من القاهرة يعني أولاً إنقاذ القاهرة من ضغط لم يعد محمولا منذ ثلاثة عقود وأكثر وتفاقم إلى درجة تهدِّد بأن تصبح أجزاءٌ كبيرةٌ منها غيرَ قابلةٍ للسكن والعمل. وللتذكير فإن أحد أوائل المصريين الذين تبنّوا أو أطلقوا فكرة نقل العاصمة كان أديبنا الكبير نجيب محفوظ في مقال له في “الأهرام” وفي إطار فكرة أساسية هي إنقاذ القاهرة… المدينة التي سُمِّيتْ في النقد الأدبي والعلوم الإجتماعية “قاهرة نجيب محفوظ”. ودعوة محفوظ هذه لنقل العاصمة تضيء على كيف بإمكان الفنان والأديب أن يكون رؤيويا في النقاش العام العمراني السياسي – الوطني.
أما الصدمة الثانية السلبية فتجسّدت في المسافة القريبة بين المدينتين رغم كل المبررات الاستراتيجية والتي أرادت أن تبقي العاصمة الجديدة قريبة من تقاطع الصعيد مع الدلتا وهو التقاطع الذي صنع القاهرة في العصور الإسلاميّة وفي نقطة قريبة من الشريان التجاري الحيوي لمصر وهو قنال السويس، لماذا فقط 45 كيلومترا يمكن أن تسمح باستمرار السكن في القاهرة والذهاب خلال النهار إلى المدينة الجديدة أو أن تكون العاصمة الجديدة مجرّد ضاحية سكنيّة للقاهرة؟ 45 كيلومتراً أي في بلدٍ صغيرِ المساحةِ جداً مثل لبنان هي المسافة بين بيروت وصيدا وأقل قليلا من المسافة بين بيروت والبترون!
بانتظار المزيد من توضيح الاعتبارات التي صنعت هذا القرار يعتقد كثيرون أن مسافةً أبعد، مثل مائتيْ كيلومترٍ أو حتى بين المائة والمائتين كانت ستوجِد مدينةً أخرى في مدى حقيقي آخر على أرض مصر الصحراويّة الشاسعة حول وادي النيل الضيّق. أما توسيع البقعة الخضراء المصرية فهو هدف ممكن التحقيق في الكثير من الأمكنة على امتداد هذه الصحراء وليس فقط في النقطة التي جرى اختيارها.
مع القرار المصري الجديد بدأ عصر كسر تابو العواصم التي لا تمس مركزيّتها في العالم العربي. فالقاهرة مثل مكسيكو مثل ريو ديجنيرو العاصمة البرازيلية السابقة (ومعها الآن ساوباولو) تضخّمت مع فلتانها العشوائي إلى حد أن فصل بعض وظائفها ولا سيما السياسيّة أصبح ضروريا. لماذا ليس بغداد المتّسعة أفقيّاً بالملايين والمتآكلة خدماتيّا وعمرانيّا؟ وحتى دمشق التي تضخّمت من نصف مليون شخص في أوائل السبعينات من القرن المنصرم إلى خمسة ملايين ساكن في دمشق الكبرى. كانت هناك فكرة قبل الحرب بقليل تدعو إلى نقلها إلى منطقة ما جنوب حمص أي أقرب إلى الوسط الجغرافي بين الجنوب والشمال والساحل. ولكن يبدو أن الدولة السوريّة تهيَّبت الفكرة، فكرة النقل، فلمْ تختبرْها كفايةً.
نقل ديبلوماسيّون وسياسيّون عرب شاركوا في اجتماعات مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن الرجلَ منشغلٌ بهَمٍّ واحدٍ هو مصر اقتصاداً وأمناً وعلى المدى الأبعد لا شك أن الاقتصاد يتقدّم على كل شيء. هذا يعني أن القيادة المصريّة ليست في وارد أية أولوية في السياسة الخارجية إلّا تلك المتصلة بأحد هذين المستويَيْن ولا سيما الاقتصاد.
ويكفي أن نستمع إلى الرقم الذي أعلنه الفريق السيسي، رقم حاجة مصر لإعادة البناء: 300 مليار دولار.
فلا تحدِّثونا أو نحدِّث أنفسَنا عن غير الداخل المصري في السياسة المصريّة… حتى إشعارٍ طويلٍ آخر.