Site icon IMLebanon

قانون الانتخاب الجديد: المغامرة التجريبية بما لها وما عليها  

 

الرسوّ على قانون انتخابي جديد، فيه الحدّ الأدنى من «السواسية» في المعايير المعتمدة، وفيه كمّ لم تختبر تداعياته بعد، من «الزركشة» والتعقيد، هو بحدّ ذاته خبر جيّد في بلد يجرجر وراءه سنوات طويلة من استعصاءات مزمنة ليست أقلّها معضلة قانون الإنتخاب العتيد، الذي ردّد الجميع طول الوقت أنّهم يريدونه عصرياً، ويؤمّن صحّة التمثيل، ليتبيّن بالتجربة أن مفهوم صحّة التمثيل هذا لا يضبط نفسه بنفسه، وفيه كمّ غير قليل من الإلتباس هو أيضاً. فصحّة التمثيل تعني تمثيل أكبر طيف ممكن من القوى في الندوة البرلمانية عند البعض، وتعني تمثيل القوى بالشكل الأفضل المناسب لحجمها عند البعض الآخر، وفي هذا فارق بيّن. صحّة التمثيل بمعيار المناطق شيء، وبمعيار الطوائف شيء آخر. بمعيار الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع شيء، وبمعيار التشكيلات الأكثر تنظيماً وتعبئة شيء آخر. ليس هناك مفهوم مطلق عن صحّة التمثيل. «صحّة تمثيل» أبناء طائفة دينية قد تتعارض مع «صحّة تمثيل» فئة عُمرية، الشباب مثلاً، أو مع تصحيح التمثيل الجندري، بإعتماد الكوتا النسائية، أيضاً وأيضاً. تعب اللبنانيون جرياً وراء سراب قانون انتخابي يراعي «ًصحّة التمثيل» لأنهم ظلوا لفترة طويلة، لشهور، لسنوات، لعقود، يتعاملون مع «صحّة التمثيل» كما لو كان قانوناً طبيعياً للأشياء يفسّر نفسه بنفسه، وما على «قانون الإنتخابات» سوى ترجمته على الورق، لتأطير ترجمته في صناديق الإقتراع. خضعوا مطولاً لمسلّمة أنّ صحّة التمثيل المثلى هي في تفضيل النظام النسبي على النظام الأكثري، وفي تفضيل النظام الأكثري بدائرة واحدة شاملة على نظام أكثري متعدد الدوائر. أرادوا في نفس الوقت التوفيق بين هذه المسلّمة وبين الشكوى المزمنة من سوء تمثيل طوائف لصالح طوائف أخرى، فكانت النتيجة قانوناً نسبياً بمجموعة كبيرة من الدوائر، القائمة على جمع قضاءين ثلاثة في كل دائرة، وعلى تقسيم العاصمة نفسها إلى دائرتين.

سواء قبل قانون الإنتخاب أو بعده، ثمة حاجة لتعديل هذه الطريقة في وزن الأمور. بدلاً من التفتيش عن قانون انتخابي «يترجم» القانون الطبيعي الوهميّ لـ «صحة التمثيل»، الأولى التفتيش عن قوانين انتخابية، ثم عن تحالفات انتخابية، ثم عن تحالفات نيابية، تراعي وجود مستويات مختلفة من «صحّة التمثيل»، ليست كلّها متصالحة مع بعضها البعض، طالما أنّ منطق «الندوة البرلمانية» يعني أيضاً أنّه لا يمكن تمثيل الجميع فيها، لأنّه ليس هناك مقاعد متوفرة لتمثيل الجميع، وهذا ما يكابر عليه أصحاب نظرية «صحّة التمثيل» السحرية.

بالتوازي، المجلس النيابي ليس مجلساً تمثيلياً فقط. انه مجلس تشريعيّ، وفي النظام البرلماني، هو الهيئة التي تنبثق عنها الحكومة، ويراقب فيها عمل الحكومة، ويعرّضها لامتحان الثقة. قوانين الإنتخاب عندما تطرح بحسب البلدان تطرح أيضاً بالربط مع هذه الوظائف التشريعية والرقابية للبرلمان. من هنا، قانون الإنتخاب الأصلح في نظام برلماني هو ذاك الذي يفرز بنتيجته أكثرية وأقلية، أكثرية تحكم وأقلية تعارض، وأكثرية قد تنقسم على نفسها من داخلها فتصير الأقلية أكثرية والأكثرية أقلية. اعتبار أنّ لبنان يسير على مبدأ آخر، غير مبدأ أكثرية وأقلية برلمانيتين، يفرّغ الانتخابات من مضامينها، وقبلها قوانين الإنتخاب. مرات نادرة خيض فيها الاستحقاق كنزال بين مشروعين يريد كل منهما ان يحقق أكثرية نيابية في لبنان. المرة الأخيرة، انتخابات 2009، كانت واحدة من هذه الحالات النادرة. في الوقت عينه، أبرز هذا الاستحقاق أكثرية وأقلية، ثم طعنت الأقلية بحيثية الأكثرية، ثم برز تضعضع الأكثرية بسرعة فائقة. ماذا عن الانتخابات المقبلة التي ستجري وفق هذا القانون الجديد؟ هل هي انتخابات «في حلّ» من الأساس، من البحث عن تشكيل أكثرية برلمانية تنبثق عنها الحكومة المقبلة؟ في بلدان كثيرة، كان نظام التصويت الأكثري لا يكفل ظهور «لعبة حكم» واضحة بين أكثرية وأقلية في البرلمان، فاستعيض عنه بنظام التصويت النسبي. وفي بلدان أخرى كان نظام التصويت النسبي لا يكفل ذلك فاستعيض عنه بنظام التصويت الأكثري. احدى المشكلات الحقيقية في تجربتنا اللبنانية أن «الإقلاع عن» الأكثري، و»الإقلاع» بالقانون النسبي، طرح دائماً، بمعزل عن الحاجة إلى تداول واضح على السلطة بين أكثرية تحكم وأقلية تعارض. هذا يعود فيحكم على كل قانون انتخابي يتم الاتفاق عليه، وكل استحقاق انتخابي ينجز، بمعايير الحفاظ على الحد الأدنى من الإستقرار، وانعاش الجزء الحي المنحسر في عمل المؤسسات، وليس أكثر من ذلك.

يبقى شيء أساسي: القانون الجديد «جديد». جديد لأنه نسبي، وجديد لأنه نسبي بعدد كبير من الدوائر، ومدمج بالتوزيع المناطقي والطائفي والمذهبي للمقاعد، وعقدة الوصل فيه هي الصوت التفضيلي على مستوى القضاء. «كيف نتعلّم على ماكينة الخياطة» الجديدة، لكن الهجينة، هذه؟ لم يسبق رؤيتها من قبل هنا، وليس تشبيه أنظمة التصويت النسبية المعروفة في بلدان العالم، والفكرة عن الرابح والخاسر بموجبها هي فكرة هشّة. ربّما يكون هذا جيداً بالنتيجة، ربما لا. في الأمر الكثير من الروح «التجريبية». مشكلة هذا القانون أن الحكم عليه يحتاج الى تطبيقه، في نفس الوقت هذا أفضل ما في القانون.