كيف يستطيع لبنان المحافظة على بعض العقل في عالم مجنون خال من كلّ ضوابط من جهة وعدائية إيرانية ليس بعدها عدائية تجاه كلّ ما هو عربي في المنطقة من جهة أخرى. لا يعبّر عن هذه العدائيّة الإيرانية أكثر من الإصرار الذي تبديه «الجمهوريّة الإسلاميّة» على ربط مصير لبنان بحرب غزّة عن طريق فتح جبهة الجنوب بهدف واحد. يتمثل الهدف في أخذ لبنان نحو كارثة أكيدة وجعل مصيره مثل مصير غزّة، على حد تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
.كلما مرّ يوم، يزداد العالم جنونا في غياب مرجعيّة تضبط المآسي التي تشهدها الكرة الأرضية وتستطيع وضع حدّ لها. يحتار المرء من أن يبدأ في تعداد المآسي. هل يبدأ من حرب غزّة حيث استغلّ اليمين الإسرائيلي «طوفان الأقصى» وهمجيّة «حماس» وغياب أي أفق سياسي لدى الحركة، لشنّ حرب إبادة على القطاع وأهله والسعي في الوقت ذاته إلى تنفيذ هدف مستحيل يتمثّل في تصفية القضيّة الفلسطينية؟
هل يبدأ المرء من الحرب الأوكرانيّة التي أراد الرئيس الروسي من خلالها استعادة أمجاد لا وجود لها، هي أمجاد الإتحاد السوفياتي؟
هل يبدأ من حرب السودان حيث انقلب العسكر بقيادة عبد الفتاح البرهان على المجتمع المدني الذي رفض بشجاعة ليس يعدها شجاعة نظام عمر حسن البشير الذي جلس على قلب السودانيين ثلاثين عاما؟
هل يبدأ بصعود اليمين المتطرف في أوروبا؟
هل يبدأ بما فعلته إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن حيث يسود منطق الميليشيات المذهبية التي تصدُر التعليمات إليها من طهران، وهي ميليشيات لا هدف لها سوى تدمير هذا البلد العربي أو ذاك والمتاجرة بالقضية الفلسطينيّة والقدس إلى أبعد حدود؟
يتوج هذا الجنون انحصار المنافسة في معركة الرئاسة الأميركيّة بين جو بايدن الساعي إلى ولاية جديدة على الرغم من تجاوزه الثمانين من العمر من جهة ودونالد ترامب من جهة أخرى. أمضى جو بايدن ما يزيد على ثلاث سنوات في البيت الأبيض من دون إظهار أي صفات قياديّة. لا يزال رئيسا حائرا بدأ عهده برفع الحوثيين من لائحة الإرهاب الأميركيّة غير مدرك أبعاد ذلك. لم يدرك منذ البداية مدى سيطرة «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران على الحوثيين وماذا يعني وجود موطئ قدم لإيران في شبه الجزيرة العربيّة مع إطلالة على البحر الأحمر.
أمّا دونالد ترامب، الذي يقترب بدوره من الثمانين، فيتبين في كلّ يوم مدى خطورته على مستقبل اميركا، خصوصا في ضوء موقفه من الحرب الأوكرانيّة مع ما يستتبع ذلك من غياب أي تقدير لمعنى سقوط دولة أوروبيّة ومحورية مهمّة، مثل أوكرانيا، في يد روسيا.
يستحيل فهم كيف أن قوّة عظمى مثل الولايات المتحدة صارت عاجزة عن إنتاج قيادات سياسيّة جديدة تمتلك فهما أفضل للعالم. لا وجود لأي استراتيجية أميركيّة لكيفية التعاطي مع مخاطر مرحلة ما بعد إنتهاء الحرب الباردة وخطورة شخص مثل فلاديمير بوتين. لا وجود لأي فهم أميركي في العمق لموقع الصين في هذا العالم ولقدرة بيجينغ (بكين) على استغلال أي فرصة من أجل تسجيل نقاط على أميركا. على الرغم من كلّ ما قيل ويقال عن إستياء صيني من زيارة الرئيس الروسي لبينونغيانغ والإتفاقات التي عقدها مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، لا تزال الصين مهتمة، في ما يبدو، باستمرار الحرب الأوكرانية كون ذلك يجعل روسيا أكثر إعتمادا عليها. لا يمكن لكوريا الشمالية الخروج من تحت المظلة الصينيّة بأي شكل. من هذا المنطلق، من المناسب للصين وجود تعاون عسكري روسي- كوري شمالي يغنيها عن الإضطرار إلى مساعدة روسيا، عبر تزويدها السلاح، بشكل مباشر.
من الواضح في هذا العالم المصاب بالجنون أنّ فلاديمير بوتين لم يحسن التصرّف في أي مكان من العالم. نراه في هذه الأيام مضطرا إلى العثور على مصدر تسليح من دولة منبوذة هي كوريا الشماليّة ومن دولة أخرى هي إيران في هرب دائم من أزمتها الداخلية إلى خارج حدودها…
لن تمضي أشهر إلّا ويتبلور المشهد العالمي الجديد، خصوصا في حال فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسيّة الأميركية وقبل ذلك فوز اليمين الفرنسي في الانتخابات النيابيّة الفرنسية التي موعد الجولة الأولى فيها يوم الرابع من تموز – يوليو المقبل.
يحدث ذلك كلّه في عالم لا يمتلك أي قيادات تتمتع برؤية ثاقبة من أي نوع. إختار فلاديمير بوتين، بعدما قرّر غزو أوكرانيا، أخذ روسيا إلى وضع أسوأ مما كانت عليه في عهد الإتحاد السوفياتي. ظهر أن الرجل لا يعرف شيئا عن العالم الخارجي. فضّل أن يكون حليفا لنظام مريض مثل نظام كوريا الشماليّة على أن يكون على علاقة جيدة مع أوروبا وأميركا. فضّل أن يكون حليفا لإيران والنظام السوري في الحرب التي تستهدف الشعب السوري منذ آذار – مارس من العام 2011.
كان جاك شيراك آخر رئيس فرنسي يحسب له حساب وكان جورج بوش الأب أخر رئيس أميركي يعرف العالم وموازين القوى فيه ومعنى عدم الذهاب إلى بغداد بعد طرد سياسي غبيْ مثل صدّام حسين من الكويت. كان بوش الأب يعرف أهمّية العراق، بغض النظر عن الشخص المريض الذي كان يحكمه. كان يعرف خصوصا معنى منع «الجمهوريّة الإسلاميّة» من وضع يدها على العراق والنتائج التي ستترتب على ذلك على الصعيد الإقليمي، في المشرق العربي والخليج…
عندما يجنّ العالم يصير طبيعيا أن تتصرّف إيران في لبنان بالطريقة التي تتصرف بها مستخدمة «حزب الله»، الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني، لفتح جبهة الجنوب مع إسرائيل، كما لو أن إسرائيل جمعيّة خيريّة. لم يعد مستغربا ربط مصير لبنان بحرب غزّة في ضوء سقوط المنطق في معمعة الجنون التي تسود العالم وانعكاساتها على منطقتنا الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي!