Site icon IMLebanon

الحكومة الجديدة ومكافحة الفساد إزالة الأسباب لا النتائج

 

يعلن بعض المسؤولين الللبنانيين في حماسة، ولاسيما الرؤساء الثلاثة، ضرورة مكافحة الفساد في الإدارة اللبنانية، ويطلقون في كل مناسبة صفارة البدء بذلك، وينشرون في وسائل الإعلام أرقام الهاتف التي تمكن المواطنين الذين يشهدون سلوكاً فاسداً من إبلاغ المسؤولين به، موحين أن الفساد هو الرشوة التي يتلقاها بعض الموظفين، مع أن مفهوم الفساد أوسع من ذلك بكثير.

فالفساد في أصل معناه هو التلف والتحلل اللذان يصيبان نسيج المادة نتيجةً لتفاعلات كيماوية، وتصدر عنه في الغالب رائحة كريهة، فإذا عرض للطعام أو الشراب أضرَّ وربما قَتل. وهو في المجاز ما يصيب النسيج الاجتماعي أو السياسي من خلل ضار أو كارثي ناشئ عن سلوك منكر. ويتجسد في المجتمع الحكومي خاصة وعلى جميع مستوياته الوظيفية، في كل استغلال للمنصب من أجل مكاسب غير مشروعة مادية أو معنوية، سواء لصاحب المنصب أو لأقربائه أو لمن يجمعهم به نسب أو عقيدة أو أي صلة ذاتية، أو لمن يرشونه مادياً أو معنوياً. ولا يكاد مسؤول لبناني يبرأ من هذا الفعل المنكر. والمضحك أنهم كلهم يطالبون بمكافحته، وكلهم يريد ذلك على الأرجح، لكن بمعيار وحيد هو أن السلوك الوظيفي المنكر الذي يصم غيره يعدّه فساداً، ويعدّ ما يصمه هو مطلباً سياسياً أو اجتماعياً أو استراتيجياً نبيلاً، فالكل فاسد إلا هو. وكل ذلك نتاج النظام الطائفي المذهبي، المرتهن كثير من عناصره للخارج.

ويمكن أن نلخص مفهوم الفساد في لبنان وعدد من بلدان العالم الثالث بتفشي الرشوة المادية أو المعنوية للحصول على مكاسب مادية أو معنوية غير مشروعة، أو لمنع حقوق مادية أو معنوية مشروعة، وكذلك سائر الأعمال غير المشروعة التي تتأتى عن استغلال النفوذ السياسي أو الوظيفي للغايات نفسها، ولو لم يصاحب ذلك رشوة. ومن مظاهره في لبنان:

1- تجاوز القوانين ونصوص الدستور، ومحاولة فرض أعراف غير دستورية، واعتبار ذلك خدمة نبيلة لبعض الطوائف أو لممثليهم في الحكم، واسترداداً لصلاحيات فردية نقلها الدستور من الأفراد إلى المؤسسات، ويتوكأ طالبو ذلك الاسترداد على زعم مغلوط هو استرداد حقوق الطوائف.

2- تعيين ذوي القربى في المناصب العليا، مع أن في الشعب من هم أكثر كفاية وأكبر نفعاً للدولة منهم؛ وكذلك تعيين المحازبين في سائر الوظائف أو من يرجى تأييدهم للجمعية السياسية في الانتخابات والنشاطات الشعبية. (المقصود بالجمعية السياسية كل حزب أو تيار سياسي أو تكتل سياسي أو حركة سياسية منظمة أو ما أشبه ذلك من تنظيمات سياسية)، وترفيع أولئك الأقرباء والمحازبين في الوظيفة بصورة متحيزة حزبية أو طائفية، واستبعاد سواهم – وأخطر ما يكون ذلك في المؤسسات الأمنية -، وحشو الإدارة بما لا حاجة إليه من الموظفين الدائمين والموقتين، واختراع وظائف وأعمال وهمية؛ وكل ذلك يفضي إلى انعدام تكافؤ الفرص، ومخالفة النص الدستوري بالمساواة بين المواطنين، وإرهاق خزانة الدولة وزعزعة الثقة بالدولة نفسها، وتهرب المواطن من تأدية الواجبات القانونية على اعتبار أن منافعها تصب في المكان المشبوه وغير الصالح؛ كما يفضي إلى إساغة مخالفة القوانين، وإلى تفاقم الجريمة، وسيادة شريعة الغاب؛ وذلك لأن زوال الشعور بالانتماء إلى الدولة مدخل إلى الفوضى، وربما التوحش.

3- تعطيل أعمال الدولة لتحصيل مكاسب خاصة حزبية أو طائفية أو مذهبية، ولاسيما في الانتخابات الرئاسية وفي تأليف الحكومة، مع ما ينطوي عليه ذلك التعطيل من ضرر فادح يصيب المصالح العامة والخاصة، ولا يكاد يختلف عن الخيانة في شيء.

4- حماية المجرمين أو مخالفي القانون لأسباب طائفية أو حزبية أو انتخابية، وتسويغ أعمالهم أحياناً بأن غيرهم يرتكب مثلها، أو بأنهم من بيئة حاضنة للجمعية السياسية. وربما لاقت أعمالهم هذه تأييداً ومدحاً، حتى إن القاتل ليجرؤ، أحياناً، على الظهور في وسائل الإعلام مباهياً بجريمته، مهدداً بارتكاب غيرها، أو مطالباً الدولة بالاعتذار إليه.

5- الارتهان للخارج تحت مسميات وشعارات دبلوماسية وعقدية متعددة، والعمل لمصلحة الأجنبي ولو أضر ذلك بالمصلحة الوطنية العامة، ويراوح هذا الارتهان بين التحالف المذهبي والعمل الاستخباري وبين العمالة للعدو.

6- إنشاء حكومة أو حكومات خفية تملي قراراتها على رجال السياسية والإدارة وتعطل فعلياً عمل المؤسسات الدستورية والإدارية.

7- عقد صفقات مالية مخالفة للقوانين يستفيد منها بعض الساسة بصورة صريحة أو بالمواربة، مثل التلزيمات المختلفة: تعبيد الطرق، إنشاء الأبنية أو السدود، التأجير، جمع النفايات وتخزينها ومعالجتها، تجارة المحروقات، الخ، وذلك لقاء أجور وبدلات وتعويضات مبالغ فيها جداً، تستنزف خزانة الدولة.

8- استعمال أموال الدولة النقدية والعينية لأغراض شخصية أو حزبية أو انتخابية أو طائفية، كأن يُسمح للسياسي أو الموظف باستعمال وسائل النقل التي جعلتها الدولة في تصرفه، ليس في مهماته الوظيفية فحسب، بل كذلك في نزهته وتأدية واجباته الاجتماعية هو وأسرته، والقيام بجولات انتخابية ضمنية، نيابية أو رئاسية؛ وكأن يسافر المسؤول السياسي إلى الخارج على رأس وفد مبالغ في عدده ونفقاته، ولاسيما إذا لم تكن أهداف الوفد وطنية عامة، وكانت نتائج الزيارة ضحلة أو بلا فائدة تذكر، والأسوأ من ذلك ألا يكون مكلفاً من الحكومة بهذا العمل. وكأن يتخذ المسؤول المقر الرسمي للمؤسسة التي يرأسها منزلاً عائلياً خاصاً، يتصرف فيه تصرفاً عَقَدياً ينفي عنه صفة العموم، فضلاً عما يكبده للخزانة من نفقات؛ أو يتخذ المقر بيتاً دينياً تقام فيه الصلوات ويلقي علماء الدين فيه الخطب، وما أشبه ذلك. أو كأن ينصب رموزاً دينية فجة على المرتفعات بيد رجال الأمن، وعلى نفقة الدولة، ويدعو سائر أهل ملته إلى القيام بعمل مشابه، الأمر الذي يفضي إلى استنكار الطوائف الأخرى وشعورها بالاستفزاز.

9- استعمال موازنات المؤسسات الرسمية في توفير الترف لبعض الساسة، كتقديم ثمن سيارة فخمة لكل منهم، وتخصيصهم برواتب وتعويضات مبالغ فيها، على الرغم من الوضع الاقتصادي والمالي السيء للدولة.

10- اتخاذ المنصب وسيلة لمحاربة الخصوم ومحاباة الأقرباء والأنسباء والمحازبين، كالامتناع من توقيع مرسوم أو قرار لا تشوبه أي شائبة قانونية أو دستورية، لكنه يتصل بخصم سياسي أو ببعض أقارب الخصم، أو لا يمنح منفعة يرجوها صاحب المنصب لنفسه أو لحزبه وذوي قرباه. وفي المقابل، تسهيل معاملات الأقرباء والأنسباء والمحازبين ولو كانت مشوبة بعيوب متعددة.

11- تعطيل المؤسسات الرقابية إما بالهيمنة السياسية عليها، أو بمنعها من ممارسة مهامها، أو بعدم تنفيذ قراراتها، وهذا يتيح لمستغلي المال العام ومنتهكي القوانين والدستور العبث بأموال الدولة ومقدراتها.

12- تعطيل قوانين الإثراء غير مشروع بمواد تعجيزية لا تتيح التجرؤ على الادعاء على الذين أثروا بصورة احتيالية أو غير مشروعة، بل تهدد المدعين عليهم بالغرامة والسجن.

13- الضغط على القضاء واستخدامه لمآرب سياسية، أو منعه من إصدار أحكام لا ترضى السلطة عنها، وهذا يشجع على الانفلات المالي والاقتصادي والسياسي، ويتيح تهديد وقمع الأفراد والجماعات المعارضة لسلوك الدولة.

14- امتناع محاكمة الرؤساء والوزراء والنواب لعدم إنشاء محاكم خاصة بهم يفترض أن يعرض المخالفون منهم عليها.

15- إنشاء ميليشيات طائفية وإقطاعية تتصدى لأي مظاهرة إصلاحية، وقد تتعاون مع بعض قوى الأمن والقضاء في قمعها وإحالة بعض المشاركين فيها على المحاكم الجزائية ووضعهم في السجن.

16- فرض ضرائب ورسوم تتساوى في بذلها جميع الطبقات الاجتماعية، لكنها ترهق المتوسطي الحال والفقراء خاصة، وذلك لسد العجز المالي الذي نجم عن فساد رجال السلطة، ومن شأن هذا أن يجعل الدولة جابياً لا راعياً، وأن يسقط مبدأ التكافل بين فئات المجتمع، وأن يستعدي المواطنين على الحكم. وأسوأ الرسوم هي تلك التي تفرض لبعض المؤسسات دون بعض من غير أي مسوغ للتمييز، كالرسوم والطوابع التي تفرض في وزارة العدل، والتي يعجز عنها كثيرون، ويفضلون النزول عن حقهم بسببها لأنها قد تكون أكبر من المبلغ الذي يتقاضون لأجله، وهم يعفُّون عن طلب المعونة القضائية تكرّماً واقتصاداً للوقت.

17- عدم إيمان أكثر الساسة بالدولة اللبنانية الحالية، وتطلعهم إلى صور أخرى لها توافق تطلعاتهم الطائفية ومطامحهم الاقتصادية، ولذلك يطرحون مشاريع فيدرالية، بمسميات مضللة كاللامركزية الإدارية الموسعة التي تفضي إلى نوع من الاعتراف الصريح بالدويلات الطائفية الموجودة ضمنياً لكن غير المكتملة العناصر فعلياً ودستورياً؛ كما يطرحون مشاريع إقطاعية كالتخصيص الذي يتيح لهم شراء المؤسسات العامة ووقف الخدمات الاجتماعية والطبية والتعليمية. وقد ارتاب كثير من المواطنين بسلوك الحكومة حيال المؤسسات العامة ومالوا إلى الظن أن الساسة يعمدون إلى تخريب تلك المؤسسات ليشتروها بثمن بخس، كالذي يجرى لمؤسسة كهرباء لبنان، أو يعمدون إلى تعطيلها لمصلحة المؤسسات الخاصة كالذي جرى للبريد والهاتف والنقل العام. إن الرأسمالية اللبنانية غير الرأسمالية الأوروبية، ولذلك لا يمكن الاطمئنان إلى سياسة التخصيص التي تريد الدولة اللنانية اعتمادها.

وباختصار، هناك كفر بالدولة متبادل: كفر من المسؤولين بها وسعي منهم إلى إماتتها ليؤول إليهم إرثها بطريقة احتيالية فجة؛ وكفر من المواطنين بها لشعورهم بأن رجالها المحتالين أولاء يتآمرون عليهم وعليها ويحاولون تكبيدهم نفقات احتضارها ودفنها. وإذا كان كل المسؤولين بلا استثناء ضالعين في ذلك الجرم، فشبه المستحيل أن يصدق المواطنون أحداً منهم. وبدل الدخول في النتائج ومحاربتها، ينبغي لأي مصلح صادق وعاقل أن يلج إلى الأسباب والعلل لاستئصال ما أمكن منها، من أجل القضاء على الفساد وإقامة الدولة.

إن الطائفية والرأسمالية المتوحشة وضعف الانتماء الوطني وضمور الضمير المدني هي مجتمعة السبب في الفساد المميت:

ولذلك لا بد من إلغاء الطائفية إلغاء فعلياً بكل ما يترتب على ذلك من تغيير جذري في القوانين التي تنظم عمل المؤسسات السياسية العامة والخاصة، ومنها نظام الأحزاب والإعلام.

ولا بد بالتالي من ترسيخ المواطنة الحقة، أي النظر إلى الإنسان اللبناني المتمدن، لا إلى الإنسان المنتمي إلى طائفة، مع حق الجميع في ممارسة عقائدهم وعاداتهم الدينية.

ولا بد كذلك من مكافحة المشاريع التقسيمية الضمنية والعلنية، وصرف النظر عن الفيدرالية التي تموَّه بمصطلح اللامركزية الموسعة، وضبط الرأسمال بجعله إنسانياً وطنياً، يخضع للمصلحة العامة ولا يُخضها له. ففرق بين ذلك الثريّ الغربيّ الذي أنفق ثروته في بناء الجامعات ولم يعن برفاهيته ولا بإناقته، وبين أثريائنا الذي ينهشون جسد الوطن ولا يعنون إلا بأرقام ثرواتهم، وبقلاع زعاماتهم.

ولا بد أخيراً من تنمية الضمير المدني الذي يغلّب المصلحة العامة على المصالح الخاصة والفئوية، ويرى في العيوب الأخلاقية، ولاسيما الكذب والاحتيال والخداع، منقصة لا براعة و«شطارة».

هذا هو السبيل إلى الإصلاح، وكل تبرئة للذات واتهمام للآخرين إنما هو تماد في الفساد، وخداع للنفس