إنه سعد الحريري الجديد؟! هذه الحقيقة هي الخلاصة البديهية لاحتفال الذكرى 13 لاغتيال الرئيس رفيق الحريري.
في الشكل والمضمون، بَدا جلياً انّ سعد الحريري اراد الذكرى لهذا العام خارج سياق الاحياءات السنوية المتتالية لاستشهاد والده.
أرادها محطة فاصلة بين زمنين؛ زمن ما قبلها وزمن ما بعدها، لرسم خريطة طريقه في المرحلة المقبلة، سواء لناحية القطع النهائي مع من يعتبرهم «الخارجين» على خط الشهيد، و»الطاعنين» في الظهر، ونافثي السمّ في التقارير.
او لناحية تموضعه «الجديد» ضمن المشهد السياسي العام، وداخل الطائفة السنيّة على وجه الخصوص. هذا التموضع عبّرت عنه مجموعة الرسائل والبرقيات الصريحة والمشفّرة التي وزّعها في اتجاهات مختلفة في الداخل والخارج، وكذلك عبرت النبرة الخطابية الهادئة التي انتهجها خارج سياق أدبيات الصدم والكسر ولغة المتاريس التي كانت تعتمد سابقاً في لغة الخطاب مع بعض القوى الداخلية، خصوصاً تلك التي يعتبرها الحريري نقيضة له، ويقف معها على خصومة شديدة.
لا يعني ذلك انّ الحريري قام بانقلاب على الذات، او على المبادىء التي يؤمن بها، او على الخط الذي انتهجه وتزعّمه منذ العام 2005 وحتى اليوم، فمن الخطأ الذهاب الى هذه الفرضية غير الواقعية، ذلك انّ ضرورات التموضع الجديد فرضتها الأزمة المرّة التي عاشها في تشرين الثاني الماضي، والتي وصفها هو شخصيّاً بأنها أسوأ ما مرّ به وعليه في حياته. كما فرضتها قراءة موضوعية وواقعية للتوازنات الداخلية، ولخطّ المصلحة الآنية والمستقبلية له، وللوهن الذي ضرب جسم «14 آذار» وأدى الى فرط هذا العنقود وتساقط حبّاته واحدة تلو الاخرى.
تبعاً لذلك، كان واضحاً جداً انّ موجبات هذا التموضع الجديد للحريري، هي التي جعلته في خطاب الذكرى 13 يمشي بين النقاط السياسية الداخلية والخارجية.
فمع «حزب الله»، اعتمد الحريري في خطابه، ما يمكن اعتباره هجوما ناعما، او كما سمّاه البعض هجوما إعلاميا صوتيا محدودا على الحزب، بَدا انه تذكيري بالخصومة التقليدية بينهما، من دون ان يغوص في عمق هذه الخصومة وأسبابها، ومن دون استحضار عناصر الفراق الاساسية بينهما من السلاح الى القتال في سوريا الى المحكمة الدولية، واستخدام تعابير ومفردات الصدام المباشر مع الحزب، تنكأ جرح العلاقة العميق بينهما، وتَرشّ الملح عليه.
يؤكد ذلك انّ توجّه الحريري في خطابه الى الحزب جاء ضمن المسار الذي اعتمده رئيس الحكومة منذ بداية عهد الرئيس ميشال عون، والذي تشكّل «الواقعية» الأساس فيه الى جانب التعايش والمساكنة وليس اللغة التعبوية والصراعية والتصادم التي كانت سائدة في ما مضى.
هذا السقف المنخفض للهجوم على الحزب، لا يعني انّ الحريري انفتح عليه، بل هو أبقى خيط النزاع مربوطاً معه، والتزم بما توجبه الخصومة الحادة بين «حزب الله» وتيار المستقبل، حيث قال الحريري انه لن يتحالف مع «حزب الله»، هذا هو الموقف الطبيعي للحريري، وهو ايضاً الموقف الطبيعي لـ»حزب الله» الذي يقول بدوره انه ليس في وارد التحالف مع تيار المستقبل، وهذا أمر مسلّم به من قبل الطرفين وبالتالي ليس مفاجئاً لأي منهما.
هذا مع الاشارة الى انّ الحريري قال في هذا الجانب ما يجب ان يقوله وتحت سقف مضبوط، ولو قال بالتحالف لكان الأمر اختلف، وساعتئذ كان يمكن القول انّ انقلاباً او تحولا جذريا شابَ موقف الحريري، وهذا ما لم يحصل.
واستدراكاً هنا فإنّ هذا السقف المنخفض في خطاب الحريري مع الحزب لا ينفي انّ «حزب الله»، وكذلك الهجوم عليه، سيكونان من ضمن عدّة الشغل الانتخابية التي يتنافس فيها الحريري وتيار المستقبل مع كل من يعتبرهم الخارجين عليه. والذين يأخذون عليه «تَراخيه» امام «حزب الله»، فيما يتهمهم الحريري بأنهم ينفذون ما يريده «حزب الله» ويسهّلون سياساته.
في الجانب الاساسي للمتوضع، اكد الحريري على خيار التحالف القوي والمتين مع التيار الوطني الحر. وبالتالي الاستمرار في تموضعه الداخلي ضمن ما تسمّى «التسوية الرئاسية»، وإعادة ضخّ الحيوية فيها، بما يسمح له بالحد من الخسائر والرسملة على المرحلة المقبلة، وخصوصاً مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية وما يتعلق تحديداً برئاسة حكومة ما بعد الانتخابات. وكذلك الاستمرار في تموضعه على خط التفاهم الرئاسي الثلاثي، الذي نجح في نزع صواعق التوتير التي هددت البلد في الآونة الاخيرة.
إعتماد الحريري هذا المنحى يتلازم مع يقينه، انه، بمعزل عن نتائج الانتخابات النيابية، كان وسيبقى متصدراً الزعامة السنية التي لا ينافسه فيها احد، حتى من بين القيادات السنية الاخرى التي لها وزنها وحضورها ضمن الطائفة، ومع يقينه ايضاً انّ وجوده على رأس الحكومة اللبنانية يحظى بغطاء خارجي واسع وتحديداً اميركي وفرنسي واوروبي، وبالتالي ليس هناك من بديل له لدى داعميه في الخارج. ومن الطبيعي هنا ان يكون منسوب الثقة بنفسه في هذا الجانب كبيراً.
واذا كان خطاب الحريري قد خلا من ايّ اشارة الى انّ «الازمة» مع السعودية قد عبرت، وطويت صفحتها نهائياً، الّا انّ هذا الخطاب اكد بما لا يقبل أدنى شك، انّ العلاقة مع السعودية والعودة بها الى سابق عهدها، قبل «أزمة الاستقالة»، تبقى الهاجس الاساس والدائم بالنسبة الى الحريري. وبالتالي، يخطىء جداً من يفترض انّ الحريري يمكن ان يخرج نفسه من رحم السعودية السياسي، لا بل انه يسعى دائما الى العودة الى الحضن السعودي.
وثمّة عامل مساعد في هذا الاتجاه، ظهرت ملامحه في ما حُكي اخيراً عن محاولة قام بها صهر الرئيس الاميركي جاريد كوشنير لإعادة مد الجسور بين الحريري وولي العهد السعودي محمد بن سلمان. والرهان يبقى انه اذا كانت هذه المحاولة قد فشلت الآن، فربما ينجح غيرها لاحقاً.
لعلّ أسطع دليل على انّ الازمة مع المملكة لم تعبر بعد، هو مبادرة الحريري الى «بَقّ البحصة» جزئياً حول ما تعرّض له في معاناته، وهو بذلك يَفي بشيء من الوعد الذي سبق وقطعه بـ»بق البحصة كاملة»، ويقال انه جرى التراجع عنه بناء لرغبة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وقد تجلى هذا «الجزء» من البحصة، في الكلام المباشر والصريح ضد «كتبة التقارير». وهناك من يُدرج في سياق هذا «الجزء» ما سمّاها «الاهانات البروتوكولية» التي شعرت او أشعرت بها بعض الشخصيات، مع لَحظ غياب رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع للمرة الاولى عن احتفال ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري.
ولعل اكثر الاشارات دلالة على «الحريري الجديد» هو إقرار الحريري علناً بالعجز المالي، وتحت هذا العجز سيتقدّم الى الامتحان الانتخابي السياسي، هذا الامتحان يشكل تحدياً للحريري، الذي لن يكون امامه سوى سبيل السعي الحثيث – بعوامل ذاتية وخطاب زعاماتي «مقنع» لجمهوره أولاً – لأن يفوز ويُكرم في هذا الامتحان، وليقطع الطريق على من يريد له أن يُهان… إنه امتحان صعب فعلاً!