IMLebanon

صورة الشرق الأوسط الجديد في صيدا وطرابلس وصور

تتعامل نخبٌ لبنانيّةٌ  كثيرة في الداخل والخارج وكأن ما يجري في المشرق العربي الشامي العراقي من تسريع تلقائي أو مخَطّط لتراجع بل إلغاء الوجود المسيحي، وأقليات أخرى صغيرة، تتعامل وكأن لبنان مستَثنى من هذه الظاهرة حالياً.

لا شك أن الحالة اللبنانية راهناً قياساً بأوضاع المنطقة تحمل إيجابيات جوهرية، لاسيما مع تنامي الوعي في أوساط النخب المسلمة اللبنانية بأهمية الوجود المسيحي ثقافيا واجتماعيا- وفي الظاهر سياسيّاً- للحفاظ على التميّز اللبناني بأكثر معانيه الحياتية والنمطية عمقاً. ويتجلّى ذلك على مستويات عديدة بعضها مباشر وبعضها غير مباشر ومنها على سبيل المثال لا الحصر الظروف النسبية الأفضل لعودة بعض المسيحيين إلى جبل لبنان الجنوبي. لكن على الرغم من عودة هذه النوايا الحسنة للتعايش المسلم-المسيحي والدرزي -المسيحي بعد تجربة حربنا الأهلية- الخارجية بين 1975-1990 فإن لبنان في العمق ليس خارج ظاهرة موجات تلاشي الوجود المسيحي المستجدة في الحروب الأهلية السنية الشيعية المندلعة تحت قيادة القوى الإقليميّة النافذة في المرحلة الحالية.

انقرض المسيحيون تقريبا في العراق. تضاءل الوجود المسيحي في سوريا إلى حيٍّ في دمشق وشريط أحياء وقرى في الوسط وعلى الساحل. في الأردن “معادلة الثلاثة بالماية ديموغرافياً – التسعة بالماية في المشاركة السياسية” تحافظ على نفسها في ظل النظام الملكي الهاشمي لكن دون أن تكون خارج أخطار الضغط الأصولي الاجتماعي والسياسي في المستقبل رغم حماية النظام. أما في فلسطين فالمأساة الانقراضية معروفة حيث الحرب هناك حربان حرب الاحتلال الإسرائيلي وحرب الضغط الاجتماعي الأصولي مع خط إسرائيلي جديد يرمي إلى اللعب بورقة المسيحيين في إسرائيل على غرار اللعب التقليدي بورقة الدروز.

لكن من قال أن لبنان بات خارج الموجة الجديدة من الضغط الاجتماعي السياسي على مسيحيّيه وبشكل خطير؟

دعوني أذكِّر ببعض الحقائق الكبيرة التي ننساها أو تعوّدنا عليها:

في صيدا انقرض الوجود المسيحي من المدينة على مدى بضعة عقود وتكرّس هذا الانقراض بعد نهاية حرب 1975-1990.

في صور بقي الحي المسيحي شكلاً لا مضمونا: بعض البيوت التي يسكنها عجزةٌ وقلة من الصيادين تستطيع أن تراهم مع أقرانهم الصيّادين المسلمين الأكثر عدداً أو الذين باتوا أكثر عدداً وبشباكهم القديمة النمط على المرفأ القديم وهم يمارسون مهنةً يرثونها من دون انقطاع منذ بضعة آلاف من الأعوام. لكن الحيّ شبه فارغٍ لولا بعض المؤسّسات السياحية التي تستفيد من شكل الحي النظيف والعريق لا من روحه. باختصار انتهى الحي المسيحي في صور بما هو كتلة ديموغرافية جدّية. ومن دون أكاذيب وألاعيب سياسية وفولكلوريّة بلا مسيحيين بالمعنى الفعلي للكلمة. حتى اللاجئون الأرمن الذين أقيم لهم مخيّم  في العشرينات من القرن المنصرم بإشراف فرنسي وأصبحوا من أبناء المدينة في السجلات تلاشوا نهائيا لاحقاً وحلّ مكانهم اللاجئون الفلسطينيون الذين يزيدونهم بؤساً في منطقة “البص”.

نأتي إلى طرابلس التي تشهد راهنا نكبةً متواصلة تحول عواملُ سياسيةٌ عديدةٌ دون تقديمها بحجمها الحقيقي. المسيحيّون يغادرون المدينة إما إلى بعض ضواحي طرابلس في قضاء الكورة وإما إلى جبل لبنان الأبعد والأشرفية وإما طبعا مثل كل اللبنانيين إلى الخارج. لكن العارفين بشؤون المدينة، ولو لا تزال فيها كتلة صغيرة لاسيما في الميناء بعد فراغ قلب طرابلس القديمة منهم، يدركون أن طرابلس دخلت عمليا طور تلاشي المسيحيّين منها ومن شبه المستحيل إعادة عجلة الأمور إلى الوراء. ولم ينتبه الذين حرّكوا بهذه الطريقة الشارعية مسألة صغيرة مثل تعيين مدير فرع في الجامعة اللبنانية في طرابلس أي دلالة قاتلة حملها هذا التحرك بشكله الطائفي من حيث أنه، وبمعزل عن وجاهة أو عدم وجاهة الاعتبارات الإدارية، يمكن أن يظهر وكأنه دعوة إلى عدم دخول المسيحيّين إلى طرابلس! رغم كل قوى الاعتدال السياسي الكبيرة في المدينة والمستقوية مجدّداً بنجاح ملموس للخطة الأمنية بعد سنوات التوتر.

يبدو الآن الضغط سنّيا ولكن الحقيقة أن الأصولية الشيعية أيضاً لم تقصّر في الثمانينات المنصرمة على مستوى الضغط الاجتماعي الديني والأمني في خلق ظروف خروج أو إخراج المسيحيين من بعض المدن والمناطق ذات الغالبية الشيعية وفي المقدمة صور.

في هذا المجال من واجبي أن أستذكر تجربة قد تكون بين الأكثر نموذجية في كل لبنان (السابق) على الاندماج الاجتماعي لكتلة مسيحيّة في بيئة مسلمة. إنهم مسيحيو النبطية الذين انقرضوا من النبطية قبل أكثر من عقدين تحت وطأة الضغط الاجتماعي والسياسي للحرب الأهلية الأخيرة ومعهم خسر جبل عامل في مدينته الثانية الكبيرة بعد صور كتلة اجتماعية مندمجة بأعلى مواصفات الاندماج اللبناني ولم يبقَ منها اليوم- يا للمفارقة المأساوية- سوى مدرستي الراهبات الأنطونيات والإنجيليين العريقتين اللتين لا تزالان قبلة أنظار نخبة المنطقة الشيعية وتقدّمان فرص التعليم الأعلى مستوىً مضافا إليهما مدرسة البعثة العلمانية الفرنسية التي أسّستها الحكومة الفرنسية. وهي في هذا المناخ مدرسة علمانية حيث العلمانية تعني تقديم المسيحيين الأجانب للمسلمين تعليماً محترماً. وهذه هي الحالة نفسها بشكل مدهش في طرابلس وصيدا ناهيك ببيروت الغربية: تلاشي الوجود المسيحي واستمرار إصرار جزء بل أجزاء مهمّة من الطبقتين الوسطى والعليا عند المسلمين على تعليم أبنائهم في المؤسّسات التربوية المسيحية الباقية. ومؤخّرا افتتحت جامعة البلمند وسط ترحاب فرعاً لها في سوق الغرب الموجودة في منطقة باتت الأكثرية فيها درزية.

السؤال الذي يؤرقني دائما بعد تجربة النبطية كوني ابنَ تلك المنطقة، وهو سؤال برسم المعتدلين والعلمانيين  الطرابلسيّين وقبلهم بعد فوات الأوان برسم أمثالهم الصيداويين والصوريّين، هو: إذا كانت بيئة معتدلة فعلا مثل بيئة أهل النبطية الذين كانوا “متّهَمين” من بعض يساريّي وأصوليّي القرى المحيطة بأنهم غير أيديدلوجيّين ولا يعيرون بشكل عام للعمل العقائدي الحزبي اهتماماً،إذا كانت بيئة النبطية المتسامحة هذه لم تستطع أن تحمي الوجود المسيحي فيها، فمن هي البيئة المسلمة القادرة على ذلك في هذا الزمن الأصولي المتفاقم الذي يحمل معه المزيد من حثالات التطرف؟ وليست بعلبك بعيدة عن تجربة التلاشي نفسها أو شبه الانقراض الذي تعرّض له مسيحيّو المدن الأخرى. وفي بعلبك كانت تعيش بورجوازية مسيحية متنوّرة وذات مستوى ثقافي شهد القرن العشرون انحسارها التدريجي حتى الزوال.