IMLebanon

«الإنسان الجديد» بين الإيديولوجيا والتكنولوجيا

 

دائماً كان بحث عن صنع إنسان جديد. هذا ما فعلته الأديان، كل على طرق وصاياه وسلوكه وإيمانه: من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام.. الإيمان بقدرة الله (عبر رُسله وأنبيائه) على خلق كائنات جديدة، توازي ما هو موجود، وما هو مستبدل.. أو ما هو محرّم.. إنه الإنسان الديني، الغارق في التعاليم الإلهية، والذي عليه أن يصنع عالماً جديداً من الخير والصلاح والخضوع، والورع. أي مسيراً قدرياً. إنه الإنسان القدري. لكنها قدريّة «تختلف من ديانة إلى أخرى. المسيحية نقضت اليهودية من دون أن تلغيها. الإسلام حارب الجاهلية والآلهة المتعددة التي يبتكرها الناس من مخيّلاتهم وهواجسهم ومخاوفهم وآمالهم». إنها «البركة» الأبدية، في مغادرة «المتعدد»، إلى الأحادية: «لا إله إلا الله».

 

هذه الظواهر الغيبية المجهولة تتحوّل حقائق وعقولاً ونواهي، وصلوات. الإيمان فوق العقل. فوق الإدراكات الحسّية. وفوق القوانين الإنسانية والوضعيّة كيف تُؤمِنْ أقلْ لك من أنت… إنها الهوية اللازبة.

 

أنت أبدي إما في النار وإما في الجنة. الحياة ما بعد الموت. كأننا نخلق أيضاً الموت الجديد. والميّت الجديد. والعالم الماورائي الجديد.

 

لكن لم يقتصر خلق الإنسان الجديد على الأديان. فقد انتقل إلى كيفية أن يصنع العقل إنساناً جديداً، من خلال الفلسفة والفكر وحتى المخيّلة واليوتوبيات، والعِلم، والمختبرات، والتكنولوجيا.. من دون أن ننسى الإيديولوجيات.

 

إذاً، على العقل أن يحقق استقلالية عن الدين، والخرافات. لا حياة قبل الولادة. ولا حياة بعد الموت. (المقابر نفايات)، إنها الثورات التي حاولت تحرير العقل الأرضي من الإيمان السماوي، وإعطاء وجود مادي منفصل للمخلوقات، وواقع ملموس ومادي للكائن البشري. هذا ما سعت إليه الحركات العقلانية الوضعية، منذ قرون، وهذا ما برز في جعل الإنسان محور الوجود. قوّته من إرادته، وقراراته من ملكاته الذهنية. هذا ما سمّوه حركات التنوير.. في القرون الثلاثة الماضية.

 

التنوير يعني الوضوح. يعني الواقع. العقل. التحول. أي الحرية الإنسانية بلا شروط. حرية المجتمع في صنع مصيره. وكذلك الفرد. إنه «الإنسان الجديد» العقلي (العقل يظلّل كل شيء، ولا شيء فوقه)، المتحرر من كل قيد ميتافيزيقي خارجي. هنا بالذات يمكن أن نتلمّس أفكار سبينوزا وديدرو… اللذين أعطيا العقل المنزلة الأولى والمرجعية الأخيرة. التحليل النقدي محل المعجزة. والتاريخ العيني محل الأسطورة. والتنوير الذي نادى به سبينوزا هو التنوير الراديكالي: إنسان «آخر» في عقل محض، غير «مشرك» بإيمان.. أو بظاهرة. أو بأديان تقلق العقل… أما فولتير وجان جاك روسو، فقد طرحا نوعاً من التوفيق بين العقل والدين، بين الكائن الأعلى الواحد وبين الإنسان الكائن المتعدد.

 

الراديكالية التنويرية

 

هذه الأفكار مهّدت للثورة الفرنسية، التي تبنّت «الراديكالية الأسبينوزية»… فوضعت حداً للاختلاط بين ما هو فوق وتحت، بين ما هو معلوم ومجهول. انتصرت الراديكالية، التي على ضوئها، تمّ تهديم الكنائس، وتجريد الدين من سلطته، وعلاماته (الملكية المطلقة التي تمثل الله على الأرض)… ومن هذا التطرّف الجذري، انبثقت فكرة الجمهورية التي يصنعها الشعب (لا الآلهة)، والديموقراطية، والعقلانية. إنه الإنسان الجديد المجتمعي التاريخي المفكر، الحر. لكنّ التخلي عن الاعتدال التنويري، خلق انفصالات حازمة، دموية، بين الثوار والقيادات. فعلّقوا المشانق، وشهروا المقاصل… وتكاثرت الإعدامات من دانتون إلى روبسبيير، اللذين، رغم خيارهما الجذري، دبّ بينهما نزاع دموي حتى قيل إن الثورة الفرنسية هي ثورة المقاصل وقطع الرؤوس. كأنما وقعت، في راديكالية الراديكالية… لتستمر الحروب والتصفيات، والأخذ والرد نحو 80 عاماً (حتى 1885).

 

إنه الإنسان الجديد الآخر، العقلاني لكن المشوب بغريزة الإلغاء، والمصاب بغريزة العنف. أين الإنسان الجديد إذاً؟ تحول قادة الثوار «آلهة» أي دكتاتوريات تصادر مسار الجمهورية والإرادة الشعبية.

 

الراديكالية التنويرية والاعتدال التنويري برزا في الثورة الشعبية على الإمبراطورية القيصرية: «ممثل الله على الأرض». الاعتدال مثله المانشفيك، الديموقراطية، الاشتراكية، الثقافية، الشعبية. إنه الإنسان الجديد المتحوّل من السلطة الملكية الإلهية، إلى السلطة الشعبية وكان هؤلاء يمثلون الأكثرية، وهزموا البولشفيك في الانتخابات البرلمانية… لكن لينين الذي جسّد الراديكالية التغييرية، حوّل المسارات إلى انقلاب مسلّح، وحروب أهلية أسقطت مئات ألوف القتلى، ليسجّل انتصاراً على المعتدلين. إنه الإنسان الأحادي الجديد الأيديولوجي (حركة التاريخ واحدة) اليوتوبي الجديد، الذي عليه أن يسترد فكرة الإيمان من الدين، لكن لتكون للحزب والنظام والشيوعية وليس لله. الإيمان إذاً. والإيمان في أصله ديني، يعني، التخلي عن الحرية، مقابل دكتاتورية البروليتاريا وتعدّدية الاختيارات مقابل حركة التاريخ. وهذه الأخيرة، ذات الطبيعة التجريدية، تجعل من الإنسان الشيوعي الجديد، مجرّد آلة قدريّة. تماماً كما هي حال الدين.

 

ونظنّ، أنّ كل إيديولوجيا فلسفية أو دينية أو حتى أدبية أو فنية أو اجتماعية تحيل «المادية» أو التاريخية على الدين. أي دينية الجوهر.

 

الإنسان الإيديولوجي

 

عندنا إذاً الإنسان الجديد الإيديولوجي، فاقد الحرية، وفاقد الإرادة، أي الإنسان القدري الإيديولوجي الجديد، مقابل الإنسان القدري الديني، بجنّته المنتظرة على الأرض «زوال الطبقات» وزوال الدولة… ومصالحة الإنسان المجتمعي مع العالم!

 

إنها مطالع القرن العشرين، بأوّل «إيمانية مادية شيوعية، عقلية، (وتنويرية)». وهذا ما سيقسّم العالم بين ما سمّي «العالم الحر، الرأسمالي، وبين العالم الشيوعي، بين اليسار واليمين، بين التقدّم والرجعية. المفارقة أنّ النظام الشيوعي «خلق» ديناً، جديداً… لكن صنع «إنساناً قديماً»، خاضعاً أيضاً للمقدّس، والتأليه، مجسّدين بالقائد أو الأخ الأكبر أو الحزب».

 

وهذا بالذات ما مهَّد لاستنبات كل الحركات الإيديولوجية المطلقة في القرن العشرين: ففكرة الإنسان الإيديولوجي نفسها، فتحت الأبواب واسعة أمام التفكّر بإنسان جديد عنصري أثني: يتمثّل بالنازية، يقدّم كل ما هو آخر، وما يعرقل مشروعه، في سبيل إقامة «أمبراطورية آريّة تدوم ألف عام».. إنسان ديني مؤمن بآريّته الوجودية والفكرية والمستقبلية. فلعبة خلق «إنسان جديد»، باتت تعني في النهاية القديم، الماضي. وإذا كانت الثورتان الفرنسية والروسية (البولشفية) سعت كل منهما إلى بلورة كائن «طازج»، يؤمن بالمستقبل والتقدم والتحول وصيرورة التاريخ، فإنّ الثورة النازية، تريد صوغ «إنسانها» المتفوق من العالم القديم: الهويّة، والأصل، والماضي. إنه الماضي السحيق، المجهول يطرق أبواب «الحداثة» الهتلرية، حداثة العنصرية… ووضع مراتب وسلالم للأعراق، والأجناس، التي يجب أن تخدم النازية نفسها…

 

الإنسان الجديد الماضوي

 

الإنسان الجديد «الماضوي»، (كأن نسترجع أهل الكهف) الإيديولوجي، الإيماني، جامع العقل والخرافات، والأديان، مهّد لثورة كبرى اسمها الثورة الإسلامية في إيران. خلع الإمبراطورية الشاهنشاهيّة، ليقيم إمبراطورية جديدة مسحوبة حجارتها من الصراع الديني والسياسي الألفي، من ضمن هيكلية تراتبية لا تختلف عن مثيلتها النازية: فالمرشد المقدّس، هو الفوهرر المقّدس. كأنها الثورة التي أعادت الشعب إلى الإيمان، ليس الإيمان الديني، بالمعنى الشامل، وإنما الإيمان الإيديولوجي المذهبي، الذي به يرتدّ إلى الماضي السحيق، ويستعيده في مداه السياسي. كأنها أول ثورة حديثة ارتدادية، تقهقرية بعد كل الثورات «المستقبلية». إنها راديكالية بالمعنى المضاد للثورتَين الفرنسية والروسية، لكنّها أخذت عن الثانية «منحاها» الجذري «الماركسي» في بعض النواحي من خلال إشراك الطبقات الفقيرة في حركاتها… لكنّها ما لبثت (الاتحاد السوفياتي)، أن تحوّلت دولة فوقية، تحميها قوى خاصة، وتسعى إلى التوسع لتصدير نفوذها إلى الخارج.

 

هل هي بداية التراجع، أو الظواهر التراجعية التي نشهدها اليوم، على صعيد العودة إلى تبنّي «هويّة» تجزيئية – مذهبية ترصد كل مرجعياتها في ثنائية قومية – فارسية – شيعية؟

 

عبد الناصر

 

لكن السؤال الكبير، كيف تفجّرت ثورة الضباط الأحرار في مصر، في 1952، (قبل الخمينية)، من دون عنف، ولا دم ولا إعدامات. ولا نفي. ولا مذابح. فما قبلها وما بعدها يفيض بالموت؟ ريما يعود الأمر إلى الزعيم عبد الناصر الذي رفضَ ممارسة العنف الذي استخدمته الثورات الكبرى التي سبقته وتلَته. ظاهرة لم يركّز عليها كثير من الباحثين والسياسيين. ثورة عبد الناصر هي مشاركة خاصة في الظواهر التقدمية والتحريرية، تجاوزت المعطيات الماضية براديكالية معتدلة (روسو وفولتير)، أي من دون أن تطاول الدين، أو حتى التقاليد الاجتماعية السائدة.

 

والغريب أنّ ثورتَين كُبريَين قامتا بعد الناصرية في أميركا اللاتينية وفي الصين، وارتبطتا بمنحيَين عنيفَين (رمز الأولى غيفارا وكاسترو)، والثاني ماو تسي تونغ. الأولى ماركسية تحريرية، والثانية شيوعية مادية. وفي الحالَين أدّتا إلى نظامَين دكتاتوريَّين اشتراكيَّين، تتميّز المادية فيهما بثورة ضمن الثورة في ما يسمى «الثورة الثقافية» (سقط ملايين الصينيين فيها)…

 

بعد هذه المراجعة السريعة لما شهده العصر الحديث من حركات، ومن إنجازات علمية واقتصادية وتكنولوجية، كيف آلت الأمور إلى التقهقر؟ فالذين دانوا هتلر على عرقيّته (الماضوية)، وعنصريّته، ها هم يقعون في ما يشبهها. كيف صار العالم، بعد كل هذه الانتفاضات الفكرية والثقافية والسياسية، على نقيضها: أي الرجعية أو الارتجاعية. عودة النزاعات إلى «الإنسان» القديم، إلى الهويّات، (بعد سقوط الاتحاد السوفياتي). والصدمات الحضارية، والصراعات المذهبية، والانعزالية، والعنف المادي والرمزي؟

 

كيف تخلّى العالم عن منحاه التقدمي، المستقبلي، ليقع كثيره في الفراغ اللاهوتي، أو الأسطرة الدينية، إزاء تفاقم أزمة الأفكار. تتساقط اليوم، كل صنائع الإنسان الحديث، وابتكاراته الإبداعية، ونوازعه التجاوزية، إلى نوع من التقادم في الانتماء إلى ما هو بائد، ومتخطىً، ولا تاريخي؟ أين هو الإنسان الجديد، الذي تحدّثَت عنه «الأديان»، والثورات المادية النهضوية القائمة على التحرر من أعباء العلاقات المذهبية، والمتديّنة، والمتعنصرة؟ عودة الإنسان القديم، وانقراض «العهود الجديدة».

 

الإنسان الصناعي

 

لكن الغريب وغير المفهوم في هذه الظواهر التي تجتاح العالم أنها في الوقت الذي تشيع فيه أشكال التمسك «بقيم» مستنبشة من البائد، والميت، يتنكب العلم (عبر التكنولوجيا)، مسألة خلق «إنسان جديد» في تحدٍّ واضح لأساطير الخلق الدينية؟ التكنولوجيا تتقدّم نحو اختراع «الذكاء الإنساني» واستيلاد الحيوانات والأفراد في مختبراتها، في محاولة لوضع إنسان ما بعد الإنسان. روبوتات تحلّ محل البشرية. مصنوعة من معادن، وصفائح، تقوم بكل الوظائف التي يقوم بها العامل، والموظف، والعسكري، والرياضي، والأولغارتمي. في السياسة ترامب، وبوتين، وأردوغان، وماري لوبان، وتريزا ماي،… إضافة إلى فلاسفة وكتّاب، وفنّانين… يعانقون الهويات التاريخية، أو القومية أو الأتنية، الماضويّة. ويعني ذلك أن «فيروس» التقهقر لم يُصب فقط «الجماهير» أو المجموعات الشعبية، بل طبقات المثقفين.

 

الهوّة

 

كأنّما انحفرت هوّة بين علماء التكنولوجيا وأهوائهم وطموحاتهم وبين الشعوب التي تحوّلت كتلاً منعزلة، متنافرة، حول جثة ما يمكن تسميته «الإنسان القديم» بغرائزه وعنفه، ولا عقلانيته، وتجرده من كل الإرث التنويري.

 

فمن ناحية أهل السياسة، والفكر، يغرقون في شعبويّة ملتبسة، تهدم كل بناءات الحداثة التي صنعت إنساناً جديداً، متحرراً من بيئاته العائلية، والاجتماعية، وهوياته، وأهل العلم، يجدون وحدهم في خلق إنسان جديد. إنه التناقض الكبير، بل الهزيمة الكبرى، لكل من لا يزال يفكّر وينتقد ويعارض بذهنية الخروج من أثقال الإرث، والانتصار، للهواجس الفئوية.

 

في الحالة الأولى، اتجه العالم نحو الانفتاح، والتوحّد (الوحدة الأوروبية)، (الوحدة العربية)، (المنظمات الأفريقية)، وفي الثانية نحو الانغلاق الذاتي والجماعي، متدثّراً بالخوف من الآخر وكراهية كلّ غريب (أزمة المهاجرين في أميركا، وحتى في فرنسا…).

 

المفارقات

 

كأنّ العالم يعيش في انفصامات مَرَضية غير مفهومة أسبابها حتى الآن. هناك من يقول إنّه الاقتصاد: لكن أميركا بعد أوباما تعيش «ازدهاراً» اقتصادياً، ومثلها بريطانيا.. (ربما فرنسا تعاني جدياً من تراجع اقتصادها)، وهناك من يقول إنها ردود سلبية على النخب الفكرية والسياسية وحتى الاقتصادية التي وعدت الناس بالمنّ والسلوى… ولم تحقق لهم سوى الخيبة، وازدياد الفروقات الاجتماعية، وتصاعد الفقر… والحروب.

 

يسمّي البعض هذه الخطابات «القديمة» الارتجاعية فراغ العالم من أفكاره. للمرة الأولى في التاريخ يعيش العالم بلا أفكار. وإنما بـ«إيديولوجيات» عنصرية، وحتى ما ورائية، وخرافات. ويسمون من يطلقون هذه الدعاوى بالشعبويين، حتى وصل الأمر إلى الإعلام بكل صنوفه، وتعرفنا إلى مظهر جديد من انحطاطه «Fake News»، أطفال المستقبل يولدون في المختبرات، ورجال المراحل القادمة يُصنعون من المعادن، والروبوتات قد تحل محل «الإنسان القديم» أي تحويل الأفراد والجماعات إلى آلات تحرك عن بعد، وتبرمج، وتعبّأ، بكل ما يمكن أن يريده صانعو هذه الكائنات غير البشرية.

 

العالم يعود أدراجه إلى أمراضه وهوياته وموروثه القديم، والمختبرات تنكب على اختراع بديله: إنه، ابشروا الإنسان الجديد. ولو ذكرّنا بالأنظمة والأحزاب الإيديولوجية الماضية، التي جعلت شعوبها مجرّد «روبوتات» خاضعة لأزرارها، وتوجهاتها!

 

إنه الزمن القهقري بامتياز!

 

إنه الزمن الماضوي الفائق الدينامية!

 

بول شاوول