انتظرنا ذكرى شهداء الصحافة في لبنان كما العادة في 7 مايو الجاري لكنها سقطت في دائرة النسيان. وكنّا انتظرنا اليوم العالمي لحرية الصحافة في 3 الجاري لكنه وقع في البهتان مع أنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة أعلنته يوماً عالمياً منذ ديسمبر 1993 وبتوصية من المؤتمر العام للأونسكو. السبب أنّ الصحافة والإعلام في لبنان بانت سلطات كبرى في مهرجان لن يرقد أو ينام قبل وبعد إعلان نتائج إنتخابات البرلمان.
صحيح أنّ القانون الإنتخابي يحترم ما يُعرف بالصمت الإنتخابي على الأقلّ، لكنّنا شهدنا في هيئة مراقبة الإنتخابات وشهدت معنا العيون والآذان المحلية والإقليمية والعالمية طوفان من الخروقات كي لا أقول الفلتان. صُمتُ عن الكلام لكنني لن أصوم عن الكتابة معلناً أنّ سفراء وقناصل وهيئات ووفوداً ومؤسسات رقابية من فرنسا والمجموعة الأوروبية والولايات المتحدة والأمم المتحدة وروسيا والصين وجامعة الدول العربية وعدد من الدول العربية والمنظمات الدولية حرثت وخاضت في مسألة الرقابة على الإنتخابات.
جاء القفز العالي فوق النصوص والقوانين والأعراف، يُفرز في المشهد اللبناني مرضين عضّالين: الأمطار المالية الغزيرة والخروقات التي يستحيل رصدها من الأحزاب المتشظية طائفياً ومذهبياً إلى حدود الذهول العام من ناحية، وهذا «الفلتان» لدى المرشحين وأهل الإعلام وكأنهم سلطة أولى بل «سلطانات وسلاطين» فتحوا أبوابهم على مصراعيها للخروقات وتجاوز القوانين الرسمية وللسلطات التشريعية والإجرائية والقضائية.
كان من الإستحالة، بصراحة، رصد هذه الأمطار المالية والإعلامية والإعلانية الموحلة الغزيرة التي قصفت بها وسائل الإعلام الجماهير والمرشحين بالتحقير والذم والكراهية وتبادل الإتهامات ونتف الريش في الأخبار والتصريحات والبيانات والشعارات واليافطات بأحجامها وألوانها والتحليلات والمقابلات والمناظرات والحوارات والتحقيقات والمؤتمرات إلى اللقاءات المتعلقة بالإنتخابات بصورة مباشرة أو غير مباشرة. كان يجري بثها بحرية غير مسؤولة، ومن دون الإحاطة بها إن كانت مدفوعة بلا مقابل في البرامج العادية أو الإستثنائية المتنافسة بين المؤسسات الإعلامية حيث لا يمكن حصر الثروات وتعدادها وملاحقتها وضبطها.
بصراحة: لماذا لا نعتمد للبنان إسماً جديداً هو « ميديا ستيت» بدلاً من تلك الولايات المقصوصة طائفياً غير المتحدة ؟
تجاوزت الأسواق الإنتخابية المتنوعة والشحن المتواصل السقوف كلّها وبكلّ المعاني المعبّر وغير المعبّر عنها إلى المبالغات المتناقضة في توظيف العلاقات اللبنانية العربية بحماسة ومغالاة غير مألوفة حافلة بالنقد والتجريح والتطاول والإتهامات إذ لم تعد تسمع صوتاً أو كلمة من نواب أو مرشحين للنيابة ممّن يتناولهم الإعلام ويشتمهم أو يسميهم حلفاء لهذا ولذاك تحت خانة» التكتيك» الانتخابي. كان من المخيف جدّاً تحوّل الدول العربية والإقليمية والدولية حجارة تقاذف كلامي وبصفاتٍ متناقضة مثار عيبٍ أو تفاخر في برامج من الإرتجالات الُمعادية ماسحين تاريخ لبنان ومستقبل أبنائه قولاً وفعلاً. تسمع مرشحاً تعثر وتلبك واحمر وكدّه العرق أمام سؤال حول علاقاته ببلد عربي فيروح يجتهد ويبرر ويدور إلى درجة التأتأة والضياع والخجل، وقد تسمع من مسؤولين في سدة السلطات الكبرى كلاماً دبلوماسياً جميلاً في العلاقات العربية اللبنانية بلا أيّ مضمون جديد سوى الكلام المتكرر الذي ملّته آذان اللبنانيين والعرب. أبسط ما يقال فيه أن العلاقات بين الأشقاء العرب تتجاوز مواعظ الكهنة والشيوخ وهي ليست صالحة لكل زمان ومكان وإنسان وانتخابات. تلك نماذج من بضاعة وبرامج تأرجحت في الحملات الانتخابية بين قشور الديمقراطيات المستوردة المتعددة المصادر وثوراتها المتلونة المتعددة الأسماء دون أن نغفل الفضائح والكلام غير الموثّق الوارد تحت عناوين «بالأمانات وبيناتنا أو في ما بيننا» بهدف ترسيخ العدائيات المتجذرة في النفوس وكأنّ أوراق التين سقطت رمّةً واحدة.
ندرت الخطب أو النصوص أو البرامج التي استلّت من قراءة التاريخ القريب أو البعيد لبناء ملامح جديدة لوطن يستغرق في هذه الحمى التي أسماها أحدهم «الصورة والفاتورة» في النصوص والأسئلة الممطوطة وتقطيع المسؤوليات والواجبات بين موجات مرفوضة من الأجيال حافلة بالاستعدائية والاستجدائية والاستقوائية والكراهيةو المتأرجحة بين شرق وغرب وعرب وعرب وحزب وآخر.
بدا المشهد الإنتخابي وظائف طائفية موسمية وصنعة وحرفة يختلط فيها المرشح بالأجير من المراسل والمعلّق والمُخبر والمقدّم حتى الخبير الإنتخابي. أليست هي الصفة الباقية في قوانين وزارة العمل اللبنانية عندما أسمت الصحافي أجيراً بدلاً من اعتباره رسولاً ومسؤولاً. هذا عيب قانوني موروث من عهود بني عثمان حان استدراكه وتصويبه كي تتحوّل القراءة والكتابة في علاقات الإعلام مع الرأي العام ومع أهل السلطة أقلّ تعثّراً وتعقيداً وتبعثراً وتكسّباً في وطن مُتعب أدمن أبناؤه ظاهرة تقاذف المسؤوليات والمغالاة بتبخير الأشخاص وتقديس التواريخ الجامدة ناسين أنّ الناس تتقاتل بالسلاح بحثاً عن رغيف الخبز وكأنّه نجمة الجائعين في الولايات غير المتحدة في لبنان.
عضو الهيئة العليا للرقابة على الانتخابات