يعيش العالم منذ ثلاثة اشهر هاجس توسيع الحرب الإسرائيلية على غزة الى مديات اوسع نطاقاً، بحيث تتحول من حرب محدودة المكان الى حرب في كل مكان، بعد التطورات الميدانية التي تجاوزت غزة إلى لبنان وسوريا والعراق والبحر الأحمر والخليج العربي .
لكن ثمة من يعتقد انّه لو كان بالإمكان حصول حرب شاملة او واسعة لكانت ظهرت تباشيرها منذ الايام الأولى لعملية «طوفان الأقصى» وتدخّل «حزب الله» وفصائل المقاومة في المنطقة لنصرة مقاوميها. فيما بدأ الحديث باكراً عن انّ ما بعد حرب غزة لن يكون كما كان قبلها لجهة ترتيب وضع المنطقة، بما يخلق نظاماً اقليمياً جديداً يطمح الغرب الى ان يكون مستقراً خدمة لمصالحه.
لا شك انّ الضغط الدولي الكبير، لا سيما الأميركي على اسرائيل لمنعها من توسيع الحرب، فَعَل فعله، برغم الدعم العسكري والسياسي المستمر لها لإنهاء حربها في غزة وتحقيق انتصار ما ولو غير ناجز على حركة «حماس»، كما فَعّل فعله في لبنان لمنعها من شنّ حرب ولو استباقية او محدودة على لبنان خوفاً على اسرائيل نفسها من فتح جبهتين كبيرتين تعجز عن تحقيق اي إنجاز نوعي فيهما، خصوصاً انّ اي حرب مع لبنان لصرف انتباه العالم عن مجازرها في غزة، والخروج من أزماتها السياسية والاقتصادية والشعبية ستكون مكلفة جداً وربما أكثر بكثير من حرب غزة. عدا عن وجود استياء دولي وبخاصة اميركي، من رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو ومجموعة حربه المتشدّدة، نظراً لعدم التجاوب مع طلبات وقف الحرب او تخفيف الارتكابات بحق المدنيين في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان.
لذلك، ما زالت الامور في المنطقة مضبوطة تحت سقف «توازن الخوف» المتبادل بين كلّ اطراف الصراع حتى لدى إسرائيل، برغم تهديداتها الدائمة، ومردّ ذلك الى انّ دول العالم لا تحتمل حروباً كبيرة في اكثر من مكان بخاصة في الشرق الأوسط، بسبب موقعه الاستراتيجي وحاجة العالم اليه كممر للنفط والتجارة البينية. وتكفي حرب اوكرانيا التي اضرّت بمصالح معظم الدول، لا سيما اوروبا وحتى اميركا، لذلك نشهد هذا الزخم من الوسطاء والموفدين الدوليين الى لبنان وإسرائيل ودول عربية معنية لمنع توسّع الحرب. بخاصة انّها امتدت الى الخليج والبحر الأحمر وأثّرت على الملاحة البحرية التجارية.
اما إقامة النظام الاقليمي الجديد في الشرق الأوسط، فهو موضوع كبير وليس سهلاً، وبحاجة الى وقت ربما يكون طويلاً، الى حين جلاء نتائج الحروب القائمة من اوروبا (اوكرانيا) الى الشرق الاوسط من محيطه الى خليجه مروراً بالبحر المتوسط والبحر الاحمر. والبحث في التغيير الاستراتيجي في المنطقة لن يحصل اذا لم تتوقف الحروب قريباً، واذا لم يحصل توافق دولي قد يستغرق سنوات لتقبل به كل الاطراف، سواءً بطيبة خاطر او على مضض او بقوة «القانون الدولي» والفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة، اذا كان ذلك ممكنا.ً
لذلك، تنتظر ولادة النظام الاقليمي الجديد نتائج الحروب القائمة ومن يخرج منها منتصراً ليُملي رؤيته وشروطه، او على الاقل من يفرض وجوده في الميدان العسكري وبالتالي السياسي، حتى لو حصل على انتصار كامل أو ناجز، إذ يكون قد فرض معادلات جديدة بالنار، هو قادرٌعلى تجديدها ساعة يريد في حال كان اي حل لا يناسب دوره الإقليمي ومصالحه ومصالح حلفائه في الاقليم. وعلى هذا سيكون الميدان هو الحاسم في اي توجّهات مستقبلية في الإقليم، سواءً لعقد اتفاقات او صفقات دائمة اومؤقتة، او لعقد تحالفات جديدة بين قوى الإقليم، او الذهاب الى محاور جديدة متقاتلة سلماً او حرباً. ولعلّ اي نظام إقليمي جديد في الشرق الاوسط سينعكس حكماً نظاماً دولياً جديداً بنفس المواصفات والاصطفافات.