تمرُّ المفاوضات الجارية على نية «اليوم التالي» لوقف الحرب العدوانية المدمرة على قطاع غزة، والتي استحدثت، بقوة وحدة المشروع، وطبيعة الصراعات الدولية المتكوّنة، بعد إعلان الرئيس الروسي فلادمير بوتين الحرب الإخضاعية على أوكرانيا، تمرُّ المفاوضات بمنخفضات ومتصاعدات تتراوح بين الإنعدام وتوافر الفرص لبلوغ اليوم التالي، وبكل مندرجاته عن وقف النار، رفع الحصار، سحب وحدات الجيش الغازي من الأراضي الفلسطينية، والسماح بتقديم المساعدات دون انقطاع إلى الفلسطينيين، الذين دخلوا في المجاعة والأمراض المعدية، وسوء الغذاء والكساء والمأوى، حسب التفاهمات الحاصلة مع قيادات المقاومة، من حماس إلى الجهاد وسائر الكتائب والألوية الفلسطينية المقاتلة. بالمقابل يضغط العدو الاسرائيلي من أجل هدنة، لا توقف النار، ولا تؤسس لانسحاب كامل من غزة، وتهدف إلى إيجاد الشرخ بين فصائل المقاومة، والشعب الفلسطيني، وحتى الوسيط العربي، وإطلاق الأسرى، أو ما أمكن من الأسرى الاسرائيليين، أو الأجانب، سواء الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية أو الأجنبية فقط، على أن يكون المجال مفتوحاً، ليس فقط لترتيبات أمنية بالغة الخطورة، سواء عبر معبر فلاديفيا، الخاضع للسلطة الأمنية والعسكرية المصرية دون سواها، أو عبر حزام أمني يفصل مستوطنات غلاف غزة عن القطاع، ولا يمكن لأي قوة فلسطينية مسلحة أن تكرر ما حدث على مستوى «طوفان الأقصى» في 7 ت1 الماضي (2023).
تواجه اسرائيل وضعاً صعباً في الداخل، على المستويات كافة، سواء السياسية (الخلافات داخل الكابينت (مجلس الحرب) أو العسكرية بين نتنياهو (بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة) ورئيس الأركان وكبار قادة جيش الاحتلال، وصولاً إلى المستويات المالية والاقتصادية، وانعدام ثقة المستوطنين والاسرائيليين على الجملة، بالإدارة السياسية والعسكرية والاقتصادية للحرب على غزة، التي تنهي شهرها الرابع غداً، لتدخل شهراً خامساً من الحرب والدمار والقتل والمجازر ضد الفلسطينيين.
عند هذا المستوى، اقتربت الولايات المتحدة من مستنقع المواجهات في الشرق الأوسط، سواء عبر بوابة البحر الأحمر، أو البر السوري، والأراضي العراقية، امتداداً إلى كركوك وكردستان (أرض الأكراد) الداخلين في تحالف ثابت مع الادارة الأميركية وحلفائها في المنطقة..
عندما أعلن حزب الله العراقي أنه قرر تعليق العمليات العسكرية ضد القواعد الأميركية، بعد ردة الفعل الأميركية على مقتل 3 عسكريين أميركيين واصابة أكثر من 36 عسكرياً ولوجستياً بجروح، قيل أن بعضها كان بالغاً لجهة الخطورة أو الاعاقة، أو الموت لاحقاً.. ظن كثيرون أن ثمة فرصة لايجاد طريق لتعاطي القوة العسكرية التي تدور في فلك المحور الايراني مع التواجد العسكري الأميركي وقواعده في الشرق الأوسط، لكن تطور الوضع السلبي على جبهة غزة، وانعدام الفرص للخروج من دراما القصف والقتل والغارات والمسيرات، جعلا الموقف العسكري حاجة من أجل استمرار الضغط باتجاه إحداث فرق بالمفاوضات، يجعل الغلبة لصالح الغزو الاسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة وحليفتها المباشرة بريطانيا.
جاء اتساع الضربات على أرض غزة، ومشاهد انسحابات الذل للجيش الاسرائيلي، من شمال القطاع بعد الدمار الذي خلفه في المنازل والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، فضلاً عن إصرار الفريق الحاكم في اليمن (جماعة الحوثي) على استمرار استهداف السفن الناقلة للنفط والناقلة للسلع (وهي سفن تجارية) باتجاه اسرائيل، واستهداف البواخر الأميركية والبريطانية حصراص، ليزيد من تقدّم الخيار العسكري، من هنا جاءت الضربات الأميركية ضد 85 هدفاً لفصائل مقاتلة، ومعادية للأميركيين في سوريا والعراق، واستمرار «القوات الاسرائيلية» بالضربات الجوية، ضد تجمعات عسكرية وبشرية ايرانية إدارياً أو لوجستياً أو حتى عسكرياً (منطقة الست زينب) ليس «كربط نزاع»، فالنزاع قائم، بل على خلفية ردع «الفريق الشيعي المسلح» المدعوم من إيران، وعدم تحويله إلى قوة تستنزف الدول العظمى رقم 1 في العالم، وبذلك توفّر فرصة يانعة للاتحاد الروسي وزعيمه بوتين، وللعملاق الاقتصادي الصيني من الثأر ممَّا يسمى (بالغطرسة الأميركية) أو الامبريالية الأميركية (بتسمية الحقبة السوفياتية).
لم تكتفِ إدارة جو بايدن بالضربات التي أدّت إلى سقوط شهداء، وتدمير بنى عسكرية، وتدمير مسيَّرات كانت تتجهز لاستئناف ضربات القواعد الاميركية من التنف إلى عين الاسد، بل عادت لتعويم قوى خيار التحالف الاستراتيجي مع اسرائيل، ودفعت إلى مجلس النواب بضرورة سن تشريع لرفع رقم المساعدات العسكرية إلى مئات مليارات الدولار لدعم التسلح الاسرائيلي، وشراء الأسلحة الخطيرة، لمواصلة حرب الدمار في الأراضي الفلسطينية وضربات الغدر للقوى الجنوبية امتداداً إلى أحياء ومناطق جنوبي دمشق.
في الشرق الأوسط، لم تغرق الولايات المتحدة في المستنقع الأمني والعسكري، فهي تردّ على الضربات بضربات، تحت عنوان أنها لا تريد اتساع التصعيد والمواجهات في المنطقة، وفي الشرق الاوسط، غرقت اسرائيل في رمال غزة، وبدا أن دول المحور المعادي للولايات المتحدة والمعسكر الغربي- الاسرائيلي، مصممة على توجيه ما تتمكن منه من ضربات، وهي ردَّت بعد الغارات الأميركية على الفور، من دون أن تعبأ بما يحدث من ضربات جديدة، قال البنتاغون أنها مستمرة ضمن استراتيجية مواجهة طويلة..
في الخضم هذا، بقيت الجبهة اللبنانية، مفتوحة على عملية القصف والقصف المضاد، ففي حين تضرب المقاومة مواقع الاحتلال ضمن المستعمرات المحاذية للحدود، والتي كانت قبل العام 1948 أرضاً لبنانية، تغير طائرات الإحتلال على منازل في القرى اللبنانية المحاذية، فتقتل ما تقتل، وتدمر ما يتيسر لها تدميره..
لم يعد السؤال مشروعاً عمّا إذا كانت المواجه ستتطور إلى ضربات أكبر أم لا، أو إلى حرب على غرار ما يحصل في غزة، فإن الجواب ليس محسوماً أو ممكناً، خارج سياق التطورات غير الواضحة، أو المعلومات المكتومة حول حقيقة ما يجري.
لكن الثابت أن لا مصلحة لحزب الله في اتساع دائر الحرب لبنانياً، لأن ما يحصل في غزة يكفي لشل الحسم العسكري الاسرائيلي، ودفع جحافله إلى الفرار بعد الانسحاب التي تمعن قيادة جيش الاحتلال في شرحها أو تبريرها. إن تحوّل المقاومة الفلسطينية في غزة إلى «فيتكونغ» قادر على التحرير يرعب الحلف المعادي ويعطي للمعركة مداها الأخير على طريق هزيمة الاحتلال.