منذ الاستقلال عام 1943 تعاقب على وزارة الخارجية اسماء لشخصيات عدة، منها ما لمع ومنها من لم يتمكن من تصدّر المشهد الخارجي على مستوى الديبلوماسية على رغم من مكانته داخلياً، في وقت أدركت الدولة اللبنانية أهمية هذه الحقيبة وما تعكسه من ثقل معنوي وسياسي على صورة لبنان الخارجية.
تأسّست وزارة الخارجية مع حكومة الاستقلال الاولى وتولاها سليم تقلا، الذي تميّز بإعتماده الحياد الإيجابي في التعاطي الخارجي، كذلك تعاقب على تولّي هذه الوزارة شخصيات من مختلف المذاهب اللبنانية المسيحية، كالموارنة والأورثوذكس، والاسلامية من الطائفتين السنّية والشيعية.
ومن أبرز الشخصيات التي تركت بصمة في وزارة الخارجية، شارل مالك الذي اعتمد الديبلوماسية اللبقة، وكان يؤمن بفكر الحرّية الإنسانية، ولذلك كان يناقش حتى في الأنظمة التوتاليتارية والشيوعية من منطلق أنّ حرّية الإنسان والرأي هي الأساس. وعندما اتخذ لبنان موقف الحياد من العدوان الثلاثي الفرنسي ـ الإسرائيلي ـ الإنكليزي على قناة السويس، وعند النقاش مع المعترضين، قال لوزراء الخارجية العرب مقولته الشهيرة: «لبنان إبنكم الصغير يمكنكم توجيه صفعة له سيتحمّلها من العائلة، لكنه لن يتحمّل الفأس التي ستقطع رأسه من الغريب»… أي الغرب.
كذلك، الوزير فؤاد بطرس لمع إسمه في الخارجية واعتمد الحياد الإيجابي لإيصال فكر لبنان ورسالته وحقوقه الى الخارج بطريقة سلسة… ومن الأسماء التي لمعت في الماضي القريب والبعيد الوزير السابق والنائب الحالي جان عبيد، الذي قال عنه الامير سعود الفيصل أنّه «حكيم حكماء العرب ووزير خارجية العرب». ومن الأسماء التي لمعت أيضاً الوزراء: فؤاد عمون، ايلي سالم، خليل ابو حمد، حيث كانت تدار الديبلوماسية في حقبة هؤلاء وغيرهم من الأسماء بحنكة، في وقت لم يتمكن البعض ممن تولّى هذه الوزارة من رسم السياسة الخارجية للبنان بدراية وديبلوماسية بمقدار طموحات الشعب اللبناني، بل بقوا اداة في يد سلطات ولّت مباشرة أو مداورة.
هل تعود الى الشيعة؟
وفي العودة الى المشهد الداخلي، يبدو أنّ سيناريوهات عدة يتمّ تداولها حول حقيبة الخارجية، ومن بينها احتمال انتقالها من الطائفة المارونية الى الطائفة الشيعية، او بالأحرى عودتها الى الطائفة الشيعية، بعد ان كانت تولتها في العام 1992 الى العام 2014 حيث تسلّمها الوزير جبران باسيل حتى نهاية 2019.
أوساط قريبة من الخارجية تنفي علمها بإحتمال المداورة في الحقائب. وتقول، إنّ من المفترض أن لا تتمّ المداورة بل إبقاؤها كما هي، نافية أن يكون لديها أي معلومة عن إمكانية التعديل، لأنّ الملف محصور بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف.
اوساط متابعة للتشكيلة الحكومية الجديدة استبعدت أيضاً «الاستبدال»، مذكّرة انّه بعد «إتفاق الطائف» رست وزارة المال على الطائفة الشيعية، وهي حقيبة سيادية اصرّت عليها الطائفة لأنّها ارادت ان يكون لها التوقيع الرابع للدولة اللبنانية وان تكون شريكة في توقيع المراسيم، فاختارت وزارة المال، وبذلك تكرّست بعد «إتفاق الطائف» هذه الحقيبة الوزارية للشيعة،علماً انّ الرئيس الراحل رفيق الحريري والرئيس فؤاد السنيورة وشخصيات أخرى غير شيعية، تولّت هذه الوزارة لسنوات قبل ان تعود الى الشيعة مع الوزير علي حسن خليل، وكانت حالها كحقيبة وزارة الخارجية التي لم تُكرّس عملياً للموارنة بل انّ الزعماء السياسيين الموارنة اختاروا الحقيبة لأنهم:
أولاً: لم يستطيعوا في «إتفاق الطائف» الإحتفاظ لا بوزارة المال ولا بوزارة الداخلية، علماً أنهما الحقيبتان السياديتان الابرز في الحكومة. ولكن الموارنة اكتشفوا لاحقاً انّ حقيبة الخارجية لا تقلّ اهمية عن هاتين الحقيبتين، اقله خارجياً، حيث لعب باسيل، على سبيل المثال لا الحصر، دوراً بارزاً في الوزارة عبر توسيع مروحة الاتصالات وتفعيل الديبلوماسية الاغترابية والإقتصادية في الخارج والداخل على مستويات عدة، بدأت بمؤتمرات «الطاقة الاغترابية» ولم تنته في الامم المتحدة.
سيناريو آخر وفق المعلومات تتمّ «حياكته» لحقيبة الخارجية وهو احتمال استبدالها بحقيبة الدفاع للموارنة، مقابل اسنادها الى شخصية ارثوذكسية أو كاثوليكية، ولهذا السيناريو قراءات عدة:
1 – يتوجس باسيل من خَلفه الماروني الذي قد ترشحه الخارجية رئيساً محتملاً لرئاسة الجمهورية.
2 – حرص باسيل على حقوق رئيس الجمهورية وحقيبة الدفاع تحديداً، خصوصاً بعد الخلافات في وجهات النظر بين العهد وقيادة الجيش التي تظهرت في بداية الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الاول الماضي، الامر الذي استدعى تخطيطاً لاستعادة التوازن على مستوى القيادة العسكرية في الدولة اللبنانية والتي يحرص عون وباسيل على ضبطها ضمن صفوف العهد.
دياب يعارض
وفق المعلومات، فإنّ هذا السيناريو اصطدم أيضاً بمعارضة الرئيس المكلّف حسان دياب، الذي انجز مشروع التشكيلة الوزارية التي تسرّبت غالبية اسمائها، وما زال بعضها ثابتاً، فيما بعضها الآخر متحرّك… في حين ما زالت حقيبة الخارجية عالقة لأنّ دياب يصرّ شخصياً على تسمية شخصية مسيحية لها، فضلاً عن تسمية وزيرين مسيحيين في حكومته لوزارتين أخريين، فيما يصرّ باسيل على تسمية وزير الخارجية.
وترجح المعلومات اختيار باسيل احد شخصيتين: سيدة ديبلوماسية او شخصية اغترابية لامعة.
وتعلّق اوساط قريبة من باسيل على المشهدية الكاملة للتأليف الحكومي سائلة: «هل «الداخلية» أو «المالية» سُجلت بعقد رسمي باسم الطائفتين السنّية والشيعية؟ إذا أرادوا «الخارجية» نحن ايضا نريد «المالية والداخلية».
وعليه، تقول اوساط متابعة لإعداد التشكيلة الوزارية إن التبادل في حقيبة الخارجية وارد بين الموارنة والارثوذكس وربما مع الطائفة السنّية، ولكن ليس مع الطائفة الشيعية مطلقاً.
الاّ أنّ اوساط تيار»المستقبل» ترفض بشدة التخلّي عن حقيبة الداخلية للطائفة السنّية او استبدالها بالخارجية، لأنّ من يُمسك بوزارة الداخلية سيتمكن من الأمساك بمفاصل الدولة واداراتها. والطائفة السنّية اليوم احوج اليها اكثر من اي يوم مضى في ظل محاولات إقصائها سياسياً على المستويين الداخلي والخارجي.
من يملأ «الخارجية»؟
مقرّبون لباسيل يعتبرون انّه «من الصعوبة بمكان تعبئة مكان باسيل في الخارجية. فظله سيبقى مخيّماً عليها وتأثيره باقٍ لما انعكس اداؤه فيها من صولات وجولات مكوكية تفرّد بها، إن من خلال رحلاته السندبادية للمساعدة في فك اسر الرئيس سعد الحريري حيناً أو لإعلاء شأن الطاقة الاغترابية حيناً آخر».
فيما يدرك القاصي والداني، أنّ المؤتمرات الاغترابية والدبلوماسية اللبنانية قلبت رأساً على عقب وزارة الخارجية، فبدّلت نظرة المجتمع الغربي الى لبنان، فيما أولت الخارجية أهمية للطاقات اللبنانية في الخارج، ولاسيما المبدعين منهم، والتي يبدو انّ الوزير باسيل لم يوفرها ويستعين بها للحكومة المقبلة.
العقدة
وبالعودة الى خريطة التشكيلة الحكومية، ولا سيما العالق منها وأبرزها الخارجية، تفيد المعلومات انه لم يتم حتى الساعة حسمها في ظل الكلام عن استبعاد اسمين بارزين عنها هما الوزيران السابقان زياد بارود ودميانوس قطار. فيما تقرأ الاوساط نفسها الاستبعاد الذي طال هذين الاسمين المارونيين في خانة وضعه ضمن اطار اقفال الباب امام كل شخصية مارونية محتملة لمنصب رئاسة الجمهورية، على ان يستكمل الاسم المطروح للخارجية مشروع باسيل الشخصي للرئاسة، الذي تنطلق دعائمه من الخارجية اللبنانية ومن توغلها في العالم، وهي الحقيبة التي ستعطيه مشروعية دستورية للتواصل مع الخارج وعقد الاتفاقات وربما التسويات للرئاسة المقبلة. ولذلك اي تهديد اليوم لموقع باسيل المستقبلي والخارجي والذي بنى مداميكه منذ 2014 في الخارجية لن يتخلّى عنه بسهولة. فالخارجية بالنسبة الى باسيل لا تقلّ اهمية عن حقيبة وزارة الطاقة التي يتمسّك بها ايضاً.
باسيل راجع!
في الكواليس، يلمّح البعض انّ باسيل ربما سيلجأ في المرحلة الحالية الى المناورة وخصوصاً بعد المستجدات الامنية والاقليمية في العراق، وتحديدا بعد اغتيال قاسم سليماني، والتي تحسن شروط الموالاة في ولادة الحكومة الجديدة دون اعتراض الشارع أو المعارضة التي تترقّب ردات فعل «حزب الله» بعد المستجدات، والتي تبدو حتى الساعة متأنية أقلّه ليس بالنسبة للتشكيلة الحكومية…
والسؤال الكبير الذي يُطرح اليوم: هل ستتسبب الانعكاسات الامنية المستجدة في الخارج بتسريع ولادة حكومة موالاة؟ وهل تخفي مفاجآت تفضي الى العودة الى الحكومة التكنوسياسية بفعل حجم التحولات الاقليمية التي تتطلب وجوداً سياسياً فاعلاً في الحكومة المقبلة؟ وهل تخبئ بالتالي مفاجأة احتمال عودة علنية لباسيل الى الخارجية، حتى لا يصبح صورة معلّقة على احدى جدران الوزارة كما قال أخيراً، خصوصاً انّ اللبنانيين جميعاً يتذكرون انّه قالها أيضاً في السابق… بأنه «لن يعود الى الخارجية» … لكنه عاد.