لم يُنتخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية إلّا بعد ان أكد على وسطيته وانه سيكون بمثابة الجسر بين المحورين المنقسمين، وأعلن من «معراب» عن تمسّكه برزمة ثوابت سيادية.
عندما انتخب عون رئيساً كان ميزان القوى الإقليمي لمصلحة طهران، كما انّ ميزان القوى الداخلي لمصلحة 8 آذار، وعلى رغم ذلك لم يتمكّن من ولوج بعبدا إلّا بعد إعلانه بأنه سيكون رئيساً لجميع اللبنانيين، وإلّا لما انتخب واستمر الفراغ الرئاسي إلى اليوم.
ولا حاجة للتذكير بالظروف السياسية الداخلية التي دفعت باتجاه انتخابه، ولكن بيت القصيد انّ هذا الانتخاب لم يكن نتيجة ميزان القوى «الطابِش» لمصلحة 8 آذار المحلي والإقليمي، فيما هذا الميزان لم يعد اليوم لمصلحة هذا الفريق لا إقليمياً ولا محلياً، فعدا عن الحصار المطبق على طهران التي ستضطر في نهاية المطاف إلى التراجع عن دورها الإقليمي وتغيير طبيعته، فإنّ 8 آذار المحلي فشل فشلاً ذريعاً في إدارة الدولة التي أوصلها إلى الانهيار، وبالتالي يستحيل ان يُمنح فرصة ثانية، لا بل الاتجاهات العامة ستدفع إلى انكفائه عن صدارة المشهد السياسي.
ومع الانهيار المالي الكبير للبنان وحاجته الماسة إلى المساعدات الدولية سيكون أحد الشروط الدولية عدم انتخاب رئيس من 8 آذار، ومعلوم انّ لبنان لن يتمكّن من الخروج من مصيبته المالية قبل سنوات عدة، ما يعني انّ تأثير المجتمع الدولي سيكون كبيراً في الاستحقاق الرئاسي هذه المرة، بخاصة انّ هذا المجتمع يُحمِّل أساساً هذا الفريق تبعات الأزمة القائمة.
فهناك عمليّاً ثلاثة عوامل غير مساعدة لفريق 8 آذار: العامل الإقليمي المتّجِه إلى تغيير جذري خلافاً لكل دوره السابق، أو أن يبقى بالحد الأدنى في وضعه المأزوم الراهن. والعامل الثاني المتصل بالدخول القوي للمجتمع الدولي على خط السياسة اللبنانية من البوابة المالية. والعامل الثالث المرتبط بتقهقر هذا الفريق الداخلي وصعوبة ترويجه لخيارات من صفوفه بفِعل فشله في إدارة الدولة أولاً، والوعي الشعبي ثانياً.
وقد شكّلت حكومة الرئيس حسان دياب نموذجاً لما سيكون عليه الوضع مستقبلاً على مستوى الرئاستين الأولى والثالثة وشكل الحكومات اللاحقة، من دون إغفال انّ فريق 8 آذار كان متمسّكاً بحكومة تكنو-سياسية واضطر القبول بتمثيل وزاري ممَوّه في الظروف السابقة، فكيف بالحري حيال الظروف الراهنة واللاحقة، حيث سيضطر إلى مزيد من التنازلات لإخراج البلد من مأزقه المالي؟
وفي موازاة الوضع الدولي والإقليمي والمالي والشعبي الذي لا يسمح بانتخاب رئيس من 8 آذار، فإنّ الوضع السياسي الداخلي أكثر تعقيداً انطلاقاً من الاعتبارات الآتية:
الاعتبار الأول يتعلق بالعهد الذي فقد إمكانية تزكية خلف له لاعتبارات خارجية وداخلية، ومن ضمنها انّ النائب جبران باسيل مرفوض سياسياً وشعبياً، فيما المعادلة التي كانت تسمح للعهد بأن يقرر خلفه تكمن بنجاحه، فلو شَكّل عهداً نموذجياً لكان باستطاعته القول انّ هذه النموذجية لا يمكن الحفاظ عليها سوى من خلال من يتّبِع السياسة نفسها، أمّا وان الانهيار حصل في عهده، ولن يكون باستطاعته تصويب الأمر، فإنّ الحكم عليه أصبح مُبرماً، والرأي العام ينتظر انتهاء هذا العهد لا التمديد له بأشكال أخرى.
وانتهاء حلم الخلافة لا يعني انّ «التيار الوطني الحر» فقد قدرة التأثير في الاستحقاق الرئاسي المقبل انطلاقاً من تحالفاته ووزنه، بل سيكون ناخباً لا منتخباً.
الاعتبار الثاني يرتبط بـ»القوات اللبنانية» التي في أيّ انتخابات مقبلة ستتصدّر الصفوف الأمامية لمجموعة اعتبارات، أهمها: حصول «التيار الحر» على تجربته ولم يفلح بتحقيق التغيير المنشود، والأعذار (ما خَلّونا) لا تقطع عند الرأي العام لا سيما انه كان يمسك بالرئاسة الأولى والثلث المعطّل في الحكومات وتكتل نيابي فَضفاض؛ ما لم يحققه عون بالنسبة للمسيحيين لن يستطيع تحقيقه باسيل، كما انه يفتقد إلى الرمزية التي كان يمثّلها عون، ولم ينجح باختراق الوجدان المسيحي؛ مع انتهاء عهد عون يتحوّل الدكتور سمير جعجع، بالنسبة إلى الفئة المَهجوسة عن حق باستمرار الدور المسيحي الوطني من كنيسة ورهبانيات وقطاعات حيوية وانتلجنسيا، إلى الرمز الوحيد المتبقّي من زمن الجمهورية الأولى والمؤتمن الحفاظ على هذا الدور؛ الصعود التدريجي لـ»القوات» وإسقاطها محاولات التشويه والشيطنة، وتراكم الثقة بممارستها التي تستظلّ الدستور والقانون والمؤسسات ولا تخاصم ولا تحالف سوى من منطلقات مبدئية وطنية بعيداً عن سياسة النكايات وتصفية الحسابات.
فكل الأسباب أعلاه ستجعل من «القوات» لاعباً مؤثراً في الاستحقاق الرئاسي المقبل، وإذا كان وصول رئيسها إلى سدة الرئاسة الأولى يرتبط بمجموعة عوامل خارجية وداخلية، إلا انها تحولت إلى المعبر الأساسي للقصر الجمهوري مسيحيّاً.
الاعتبار الثالث يرتبط بـ»حزب الله» الذي لن يتمكن من انتخاب رئيس معه وله، ولكن في الوقت نفسه يصعب انتخاب رئيس ضده، وأيّ رئيس مقبل سيكون حصيلة التوازن بينه وبين «القوات اللبنانية»، فيما لن يتمكن الحزب من دعم ترشيح باسيل او رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية ليس فقط حرصاً على عدم القطع مع أيّ منهما في ظل حرب «داحس والغبراء» بينهما، إنما الأهم لأنّ انتخاب رئيس من 8 آذار لا ينطبق مع مواصفات المرحلة دولياً ومحلياً.
الاعتبار الرابع يتصل بالثلاثي الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري ورئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط، ولا يفترض ان يكرر هذا الثلاثي تجربة العام 2016 من خلال عدم الأخذ في الاعتبار الجانبين التمثيلي والتحالفي، فيما مصلحة هذا الثلاثي تكمن بالربط مع المسيحي الأقوى، أي جعجع، وعدم القطع معه لاعتبارات وطنية وسياسية ومناطقية وتقاطعية، بخاصة في ظل انقطاع العلاقة مع «التيار الحر» او غياب الثقة والانسجام السياسي والشخصي معه.
فالتحوّل في المشهد السياسي لا يقتصر إذاً على الشق الإقليمي، إنما ينسحب على الشق المحلي في أكثر من مستوى ومجال، وهذا التحوّل غير المرئي بشكل كامل اليوم سيتبلور تدريجاً باتجاه صياغة وضعية سياسية جديدة تقطع مع المرحلة السابقة وتنقل لبنان من واقع شبه الدولة إلى الدولة المكتملة المقومات والمواصفات بدءاً من رئاسة الجمهورية.
وتبعاً لما تقدّم أعلاه من اعتبارات محلية وخارجية تصبح هوية الرئيس المقبل محسومة، وهويته تعني الفئة السياسية التي سينتخب منها، لأنّ الانتخابات الرئاسية هي وليدة الظرف السياسي والتوازنات الداخلية والخارجية، وفي حال لم تتبدّل هذه الظروف والتوازنات، والتي يصعب تبدّلها باعتبار انها تتجه نحو المزيد من القطع مع المرحلة الحالية، فإنّ الرئيس المقبل سيكون حكماً من خارج 8 آذار ومُحصّناً بمعادلات ومعطيات تسمح له بدفع مشروع الدولة قُدماً.