Site icon IMLebanon

رواية رحلة باخرة النيترات من جورجيا إلى بيروت

 

 

لم تُكشف هوية «المذنب الأكبر» في جريمة المرفأ. المحقق العدلي يرسم خارطة توزّع المسؤوليات. يترافق ذلك مع فتح الأجهزة الأمنية (الأمن العام واستخبارات الجيش وقوى الأمن الداخلي) تحقيقات داخلية لكشف المسؤول عن الخلل في التعامل مع ملف نيترات الأمونيوم. كما يتركّز التحقيق لتحديد السبب الذي يقف خلف وصول سفينة «روسوس» إلى لبنان. في ما يأتي، خلاصة ما اطلعت عليه «الأخبار» من وثائق تكشف سبب توقف الباخرة في مرفأ بيروت

 

بات ثابتاً لدى سلطات التحقيق في تفجير مرفأ بيروت (4 آب 2020) أنّ السفينة روسوس، التي كانت محمّلة بـ2700 طن من نيترات الأمونيوم، دخلت إلى لبنان في ٢١ تشرين الثاني عام ٢٠١٣. كان هدف طاقمها نقل آليات تُستخدم في عمليات المسح الزلزالي بحثاً عن النفط. السفينة انطلقت من مرفأ باتومي في جورجيا متجهة إلى مرفأ بايرا في الموزمبيق، لكنها عرّجت على لبنان لشحن ١٢ شاحنة كبيرة و١٥ شاحنة صغيرة وحاوية كبيرة (٤٠ قدماً) وحاويتين صغيرتين (٢٠ قدماً)، لإيصالها إلى مرفأ العقبة في الأردن. وبحسب إفادة الربّان، فقد ذكر أنّه جاء لأخذ «التوصيلة»، على اعتبار أنّ أجرة شحنة بيروت ستُغطي كلفة عبور قناة السويس. مكثت السفينة أربعة أيام في مرفأ بيروت من دون قيدٍ أو شرط. وقتذاك لم يكن هناك قرارٌ بمنع إبحارها أو حتى قرارٌ قضائي بالحجز عليها.

 

أثناء تحميل الشاحنات على متن السفينة، لحق ضرر كبير بأحد العنابر. لم يكن فيها مكان يتّسع لتحميل الشاحنات، بحسب تقرير رسمي، فحُمّلت على غطاء عنبر البضاعة فـ «انبعج» العنبر، بحسب تعبير خبير. في تلك الأثناء، أُبلِغ جهاز الرقابة على السفن بما حصل. وفي ٢٥ تشرين الثاني عام ٢٠١٣، أجرى كشفاً على السفينة وقرر حجزها لعدم استيفائها شروط سلامة الملاحة البحرية وفق القوانين الوطنية والدولية. وتم إبلاغ مالك السفينة والمنظمة البحرية الدولية.

وفيما أرسِلت الشاحنات إلى الأردن بواسطة سفينة أخرى، بقيت «روسوس» محتجزة والبحّارة عالقين على متنها بناءً على هذا القرار، حتى ٢٠ كانون الأول 2013، أي بعدما كان قد مرّ على منع السفينة من المغادرة ٢٥ يوماً. في ذلك اليوم، نفّذت شركة Bankernet الحجز الأول على السفينة أمام دائرة تنفيذ بيروت القضائية، عبر وكيليها القانونيين المحاميين سمير وجان بارودي. فللشركة الطالبة الحجز مبلغ ١١٩ ألف دولار مع لواحق بقيمة ١٢ ألف دولار مترتّبة على مالك السفينة بدل ثمن وقود. حجزٌ ثانٍ نُفِّذ على سفينة روسوس من شركة Dan bankering بعد سبعة أيام، أي في ٢٧ كانون الثاني ٢٠١٣. هذه المرة المبلغ المطلوب ١٥١ ألف دولار. وفي ١٧ نيسان عام ٢٠١٤، نُفِّذ حجزٌ ثالث من شركة ثالثة لطلب مبلغ ٢٣ ألف يورو مستحقة على مالك السفينة. وفي ٢٨ آذار ٢٠١٥ نُفِّذ الحجز الرابع ضد السفينة من قبل شركة Maryland corporation. وفي الخامس من أيار 2014 نُفِّذ الحجز الخامس للمطالبة بمبلغ ٩٨ ألف دولار. وجميع هذه الشركات كانت تُطالب مالك السفينة بثمن وقود لم يدفعه.

برز لافتاً في مسار التحقيقات أنّ مالك السفينة تخلّى عن الطاقم في الشهر الأول من فترة احتجازها. توقف عن دفع رواتبهم كما قطع التواصل معهم. وقد اطّلعت «الأخبار» على العديد من المراسلات البريدية التي أرسلها قبطان السفينة بروشكيف بوريس والتي برز لافتاً فيها عنونته لبريده الإلكتروني بـ«الرهائن على روسوس». وكان القبطان يرجو الجهات اللبنانية السماح للطاقم بالمغادرة، ويُعرب عن فقدانهم الأمل حيث يعيشون حالة شديدة من اليأس من جرّاء وجودهم منذ أشهر محتجزين على متن هذه السفينة. حتى إنّه في إحدى رسائله هدّد بالانتحار واصفاً الدولة اللبنانية بأنّها بفعلتها هذه تُعيد زمن العبودية. كما قام البحّارة بمراسلة عدد من الجمعيات الحقوقية التي قامت بدورها بمراسلة الدولة اللبنانية وشركة المحاماة عبر السفارتين الروسية والأوكرانية. وطالب هؤلاء بـ«تحرير» البحّارة لكون الملفات العالقة يتحمّلها مالك السفينة. لذلك، وبعد مرور أشهر على احتجاز الطاقم، عاود بارودي التوكّل عن البحارة المحتجزين ليطلب من القضاء تركهم في حال سبيلهم. وفي شهر آب من عام 2014، قرر القضاء تركهم.

 

الباخرة أتت إلى بيروت لشحن معدات للمسح الزلزالي إلى الأردن

 

 

السفينة أفرِغَت من النيترات في شهر تشرين الأول 2014، بناءً على إشارة القضاء، الذي قرر ذلك بعدما تقدّمت الدولة اللبنانية – بواسطة المديرية العامة للنقل البري والبحري – بطلب تفريغ الحمولة خشية غرق السفينة وما يمكن أن تمثّله الحمولة من خطر بيئي. إلا أنّ التدقيق بيّن أنّ شركة بارودي للمحاماة كانت قد راسلت رئيس مرفأ بيروت في السابع من نيسان عام ٢٠١٤، أي قبل ستة أشهر من إنزال النيترات، وعنونت رسالتها بـ«طلب اتخاذ تدابير مستعجلة لتجنب حدوث كارثة بحرية». انطلقت الشركة من أنّ البحارة سجناء على متن السفينة ولا يستطيعون تأمين قوت يومهم بعدما تخلّى عنهم أصحاب الباخرة ومجهزوها ومستأجروها وتوقفوا عن دفع أجورهم وانقطعوا عن دفع نفقات السفينة وديونها، لتتحدث عن خطر داهم يتمثل بنيترات الأمونيوم التي وصفتها الشركة بأنها خطرة جداً لقابليتها العالية للاشتعال، منبّهة إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر عند تخزينها أو نقلها. وأشارت الرسالة إلى أنّ الباخرة أصبحت مهترئة، ما يعرّضها لخطورة الانفجار. وللتحذير من الخطر المحدق، استعادت الشركة عدداً من الكوارث الناجمة عن نيترات الأمونيوم، ومنها الكارثة التي حصلت عام ١٩٤٧ في ميناء تكساس، حيث انفجرت سفينة تحمل ٢١٠٠ طن من نيترات الأمونيوم، ما تسبب في مقتل المئات وإحداث أضرار بقطر ٤٠ ميلاً وتدمير مئات المباني. وطلبت شركة بارودي للمحاماة من رئيس المرفأ اتخاذ الإجراءات اللازمة على وجه السرعة من أجل تفادي ودرء المخاطر الناجمة عن نيترات الأمونيوم، مقترحة بيع الباخرة والحمولة.

ورداً على رسالة شركة بارودي، أجاب المدير العام للنقل البري والبحري المهندس عبد الحفيظ القيسي متحدثاً عن توجيه كتابين إلى هيئة القضايا في وزارة العدل بتاريخ ٨ نيسان ٢٠١٤ وبتاريخ ١٤ نيسان ٢٠١٤ عُرضت فيهما حيثيات موضوع الباخرة التي تحمل مواد خطرة ومهددة بالغرق، كاشفاً عن طلبه التعجيل في بت قضيتها وبيعها بالمزاد العلني. وكشف عن طلبه من وكيل الباخرة البحري (الوكالة الوطنية للتجارة والشحن) إصلاح الباخرة وصيانتها بشكل فوري وسريع، وإبلاغه خلال مهلة ٢٤ ساعة بالإجراءات التي سيتّخذها.

خلال الشهر نفسه، أجرت دائرة الملاحة البحرية في المديرية العامة للنقل البري والبحري في وزارة الأشغال كشفاً على السفينة روسوس الراسية على حاجز أمواج مرفأ بيروت لتقييم حالتها ووضع تصور لاتخاذ القرار المناسب الذي يضمن استمرارية حركة الملاحة في مرفأ بيروت. انطلق التقرير من تاريخ بناء السفينة المحدد عام ١٩٨٦، والتي تُبحر تحت علم مولدوفيا بطاقم من الجنسيتين الروسية والأوكرانية. وذكر الخبير الذي أعد التقرير أنّه مع شحن أول شاحنة لوضعها على عنبر السفينة وقع الضرر، فأمر ربّان الباخرة بوقف عملية الشحن خشية انهيار غطاءي العنبرين وحصول ضرر كبير في السفينة والبضاعة. ومن جرّاء الكشف، خلص جهاز التفتيش إلى أنّ أسطح السفينة وغطاءي عنبري البضاعة في حالة اهتراء شديد، كما أنّ مواسير الهيدروليك المخصصة لفتح غطاء العنبر مهترئة. وأشار إلى وجود شرخ في الحديد الخارجي في خزان مقدمة السفينة، كاشفاً أنّ «أنظمة سحب مياه الصابورة» من خزان المقدمة وبقية الخزانات لا تعمل. وكشف عن وجود شرخ في كل من خزان الصابورة الأيمن والأيسر حيث وُضع صندوق اسمنتي لمنع تدفق مياه البحر إليهما. كما ذكر التقرير أنّ الطعام المتوفر للطاقم لا يكفي لأكثر من أسبوع، وأنّ البحارة لم يتسلموا رواتبهم منذ شهر تشرين الأول ٢٠١٣، أي إنهم لم يتقاضوا أي راتب طوال ستة أشهر.

ولفت التقرير إلى تشغيل مولدّ الكهرباء في الباخرة يكون لأربع ساعات فقط يومياً بسبب النقص في الوقود. وذكر أنّه لا يوجد طاقة كهربائية دائمة، ما يعني أن بطاريات الطوارئ لن تكون جاهزة للاستخدام في أي وقت. وتحدث عن تسرب زيتي في مختلف أرجاء السفينة. كما أشار إلى أنّ القمامة متراكمة على سطحها، واصفاً الحالة النفسية للطاقم بالسيئة. وكُتبت في نهاية التقرير مجموعة توصيات مع إشارة كاتب التقرير، الربان هيثم شعبان، إلى وجود خطر قد ينجم عن وجود البضاعة المصنفة خطرة، متخوّفاً من حصول تفاعل كيميائي.

 

مالكو النيترات

توصّلت التحقيقات إلى تحديد أربع شركات مرتبطة بشحنة نيترات الأمونيوم. الشركة المالكة للبضاعة Savaro LMT والشركة الوسيطة التي تولّت عملية بيعها والشركة التي نقلتها وهي Teto shipping LTD والشركة المشترية في الموزامبيق التي يملك الجزء الاكبر من أسهمها رجل أعمال برتغالي. وقد أظهرت ورقة المانيفست المؤرخة بتاريخ ٢٧ أيلول ٢٠١٣ أنّ البضاعة المحمّلة على متن سفينة Rhosus المتجهة إلى موزامبيق، هي نيترات الأمونيوم العالية الكثافة عبارة عن 2755,500 طناً موضّبة في 2750 كيساً. وورد في المانيفست أنّها تُستخدم لتصنيع المتفجرات، ومشحونة لأمر بنك موزامبيق الدولي لصالح شركة Fabrica de explosives، علماً بأنّ الشركة المالكة للبضاعة هي شركة Savaro limited في أوروبا الشرقية تستخدم نيترات الأمونيوم في التفجيرات خلال عملها في المناجم.

وعلمت «الأخبار» أنّ الشركة الشارية للبضاعة تخلّت عنها عام ٢٠١٥، إثر زيارة أحد مالكيها للبنان للمطالبة بالبضاعة المحجوزة. وكشفت المعلومات أنّ هذه الشركة كلّفت المحامي جورج القارح بالتوكّل عنها لمتابعة الملف أمام القضاء. وبناءً على استدعاء هذه الشركة عبر وكيلها أمام القضاء لتبيان حالة الشحنة وكميتها وإذا ما كانت صالحة للاستهلاك، كُلِّفت الخبيرة الكيميائية ميراي مكرزل من قاضي الأمور المستعجلة في بيروت نديم زوين في الشهر الأول من عام ٢٠١٥ بإجراء الكشف على عينات نيترات الأمونيوم. وفي ١٨ شباط ٢٠١٥ كتبت مكرزل تقريرها ورفعته للقاضي، وذكرت فيه أنّ البضاعة بحالة مزرية، والأكياس ممزقةـ والمادة الموجودة داخل تلك الأكياس أصبحت خارجها وتغيّر لونها. وكتبت الخبيرة المحلّفة أنّه لا يمكن عدّ الأكياس بسبب طريقة تخزينها ووضعها بطريقة غير منظّمة بحيث لا يمكن إحصاؤها، لكنها قالت إنّ عددها هو ٢٧٥٠ كيساً بحسب بوليصة الشحن. وذكرت أنّ هناك ١٩٥٠ كيساً ممزّقاً من أصل العدد الكلي، مشيرة إلى أنّ نيترات الأمونيوم تُستخدم كأسمدة زراعية كما يمكن استعمالها في صناعة المتفجرات. أما عن صلاحية البضاعة الموجودة في الأكياس الممزقة، فذكرت مكرزل أنّ هذه المواد تبقى صالحة إذا لم تمتص رطوبة، لكن للتأكد، تحتاج إلى تحليلها في مختبر، لافتة إلى أنّ الجهة المستدعية رفضت ذلك. وعلمت «الأخبار» أنّ وكيل الشركة المالكة للبضاعة جُنّ جنونه عندما أُبلغ بحالة الشحنة، فقرر الاستغناء عنها لاعتبار أنّ حالتها سيئة. ولدى السؤال عن سبب تخلّيها عنها وتحمّلها للخسائر، كان الجواب أنّ الشركة المشترية تطلب الشحنة بناءً على اعتماد مستندي مصرفي. وأنّه في حال عدم وصول الشحنة إلى وجهتها المحددة، فإنّها لا تدفع ثمنها.

لم يكتف التقرير بوصف حالة البضاعة، إذ كتبت مكرزل في السطر الأخير منه أنّه يجب التخلّص من المواد الموجودة في الأكياس الممزقة وفقاً للأنظمة المتعلّقة بالرقابة البيئية المحلية.

لكن الدولة، بسلطتيها القضائية والتنفيذية، لم تلتفت إلى خطورة وجود هذه الكمية الهائلة من نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت. بقيت تلك القنبلة ذات المفاعيل النووية في العنبر الرقم 12 مدار أخذ ورد بين الجمارك وقيادة الجيش والقضاء ووزارة المال وإدارة المرفأ، ثم المديرية العامة لأمن الدولة ومجلس الدفاع الاعلى ورئاسة الحكومة ووزارة الأشغال، إلى أن وقعت الواقعة يوم 4 آب 2020.

 

لماذا تسلّل الحداد من فجوة العنبر؟

استجوب المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي فادي صوان كلاً من المدير الاقليمي لجمارك بيروت المدّعى عليه ح. ف.، والمدّعى عليها المهندسة ن. ح.، وهي موظفة في إحدى الشركات التي تلتزم إشغالات في المرفأ وأصدر مذكرتي توقيف وجاهيتين بحقهما. وبتوقيفهما، صار عدد الذين صدرت مذكرات توقيف وجاهية بحقهم في هذا الملف ستة أشخاص.

وكشفت مصادر أمنية أن الفضيحة الكبرى التي تُضاف إلى الارتكابات لجهة التأخر في تنفيذ الإشارة القضائية، تتمثل في قيام رئيس مصلحة استثمار المرفأ حسن قريطم بإجراء مناقصة فازت بموجبها إحدى الشركات لتلزيم حدادين مقابل ٦ ملايين ليرة لإصلاح باب العنبر الرقم ١٢. وبهذا برّر قريطم التأخير حيث ذكر في إفادته أنّ جهاز أمن الدولة لم يبلّغ إدارة المرفأ بالإشارة القضائية بشأن طلب تعيين أمين مستودع للعنبر المذكور. وعلمت «الأخبار» أنّه عند وصول الحدادين لإصلاح العنبر، تبيّن لهم أنّ الصدأ عطّل قفل الباب، فلم يتمكنوا من فتحه، وعمد أحد الحدادين إلى التسلل عبر الفجوة الموجودة في العنبر ليفتح الباب من الداخل. وبعد الانتهاء من أعمال الصيانة، لم يجد الحدادون سبيلاً لإقفال باب العنبر سوى عبر تلحيمه! وأدى تلحيم الباب إلى عرقلة عمل فريق الإطفاء الذي لم يتمكن من فتح الباب سوى عبر خلعه، ما أسهم في تأخير مكافحة الحريق المشتعل.