كل اتفاق يخضع للموازنة بين مكاسبه وتنازلات أطرافه. وهذا ما اتفق معظم المراقبين والمعلقين عليه بشأن الاتفاق النووي الأخير بين إيران والدول الكبرى في مقدمتها الولايات المتحدة. فإيران كسبت رفع العقوبات الاقتصادية عنها والسماح لها بمواصلة مشاريعها النووية السلمية، أما الولايات المتحدة فقد أرجأت التسابق الحربي النووي في الشرق الأوسط عشر سنوات.
غير أن المآخذ على هذا الاتفاق كثيرة، وتستحق التوقف عندها والتفكير الجدي في عواقبها.
فالدول العربية والخليجية التي تعتبر حليفة للغرب وللولايات المتحدة بالذات، اعتبرت أن رفع العقوبات عن إيران سوف يزيد من قدراتها على تنفيذ مشروعها الإمبراطوري في الشرق الأوسط، من العراق إلى سوريا إلى اليمن، مرورًا بحزب الله في لبنان. فالاتفاق يكرس اعتراف الولايات المتحدة والدول الكبرى بدور إيراني كبير في الشرق الأوسط. ولذلك سارعت واشنطن إلى طمأنة أصدقائها العرب على استمرار وقوفها بجانبهم في حال تعرضهم لأي خطر. وقد تكون جادة في وعدها ومخلصة، ولكن ذلك لا يكفي لإقناع إيران بوقف تدخلها في شؤون جيرانها العرب وتحريك أقلياتها.
الرد الأميركي والدولي على هذه المخاوف والتحفظات كان واضحا؛ أن الاتفاق النووي ورفع العقوبات يخضعان لحسن تطبيق الاتفاق من قبل إيران، وأن أي انحراف أو خلل من قبلها سيقابل بردة فعل من قبل واشنطن والدول الغربية. إن إيران تدرك ذلك، ولكن في جعبة حكامها – كما تبين حتى الآن – أكثر من حيلة للالتفاف على العقبات التي تعترض تنفيذها لمشاريعها.
كما اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاتفاق تنازلاً دوليًا أمام إيران (شبهه بتنازل فرنسا وبريطانيا أمام هتلر في اتفاق ميونيخ عام 1937)، وحجته أن واشنطن ما كانت «لتعوض عنه بزيادة مساعداتها المالية والعسكرية لإسرائيل لو لم تعترف بينها وبين نفسها بأنها أرجأت خطر إيران النووي عليها، بدلاً من إزالته». وهذا الاحتجاج الإسرائيلي لقي تجاوبًا من الكونغرس الأميركي ولكن يبدو أنه (أي الكونغرس) ليس له إمكانية عرقلة تنفيذه. ففي مطلق الأحوال لن يتمكن الكونغرس الأميركي من نقض الاتفاق، ولن تتراجع الدول الموقعة عليه. ولكن تنفيذه لن يكون سهلاً أو خاليًا من المطبات والأزمات. وعلى الرغم من أهمية هذا الاتفاق على لعبة الأمم وتنافسها في الشرق الأوسط أو كمؤشر على مضي الولايات المتحدة والرئيس أوباما في تنفيذ استراتيجيته الجديدة.
إن الهم الأكبر أو الكرة الساخنة حاليًا هو تحجيم وضرب «داعش» في سوريا والعراق، وامتداد العنف الإرهابي المتطرف إلى أكثر من دولة عربية. وهي معركة عجيبة غريبة، إذ يلتقي في جانب واحد منها حلفاء وخصوم ما زالوا يرفعون رايات تحالفهم وخصوماتهم، وليس في الأفق أي مؤشر إيجابي أو تصور لمآل هذه المعركة.
إن الحرب على الإرهاب وخصوصًا على «داعش» في سوريا والعراق باتت تشكل أولوية دولية وإقليمية، كما أن قضية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين والعرب تراجعت على سلم الأولويات، ولا سيما بعد تصلب موقف تركيا من «داعش» ومن الأكراد في الوقت الذي فعلت أنقرة الكثير ولا تزال لإسقاط النظام السوري الذي يقاتله «داعش» و«الأكراد السوريون»، بينما «الأكراد العراقيون» يتعاونون مع حلفاء النظام السوري في مقاتلة «داعش»!
هل سيؤثر الاتفاق النووي الإيراني – الدولي على مجرى الحرب الدولية – العربية المشتركة على الإرهاب؟ أم أن هذه الحرب سوف تؤثر على تنفيذ هذا الاتفاق؟ كلاهما له تأثيره. إلا أن إيران سوف تتمكن جراءه من تحسين أوضاعها الاقتصادية.
إن الاتفاق النووي – كما كتب دومينيك دوفيلبان – رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق – حلّ مؤقتًا إحدى العقد في أزمة الشرق الأوسط المصيرية، ولكن العقد كثيرة، وأهمها في نظره مشكلة السلام بين العرب وإسرائيل والنزاع بين السنة والشيعة، وأن الدول الكبرى عليها أن تساعد قدر طاقتها ومصالحها على حلحلة العقد، إنما الحل الحقيقي يبقى في أيدي دول وشعوب المنطقة وبنوع خاص في اتفاق الدول الوازنة في المنطقة وعلى رأسها السعودية ومصر وتركيا.