IMLebanon

ثورة 17 تشرين: أزمةُ ثقة ونظام لا أزمة إجراءات وخُطَط

 

لأسباب عديدة، عديدة جداً.. لم يكن يوم 17 تشرين 2019 وما بعده يوماً عادياً. ولن يكون. حتى تاريخ 14 آذار 2005 الذي وحّد اللبنانيين مسقطاً أسطورة عدم توحدهم، بدا أنه دون هذا اليوم حضوراً وامتداداً وطنياً وسياسياً، هناك كانت التراجيديا والمأساة وفظائع الوصاية عوامل جمع، وهنا كان الغضب والألم وحنينٌ قديم إلى طعم المواطنة العابرة للأحزاب والطوائف والمخاوف المصطنعة.. أبعادٌ ودلالاتٌ جعلت من التحركات في المناطق والشوارع والساحات أكثر من تظاهرة أو حركة احتجاج؛ جعلت منها ثورة مكتملة الأوصاف والعناصر.

 

أن تنزل الملايين في بيروت والمناطق، ومعهم مئات الآلاف من حول العالم، معلنين رفض استمرار صيغة الحكم القائمة، وتبعاً كل ما نتج عن التسوية المشؤومة من انتهاك للدستور. التسوية التي فتحت الباب واسعاً لاستحواذ أقلية سلطوية على الدولة ومرافقها ومواقعها بشكل فاقع، وغير مألوف، ومناقض لكل الأعراف، وترتب عليها تدمير ممنهج لفكرة الدولة، وإلغاء للمؤسسات، وتهميش للكفاءات، وممارسات طائفية مقرونة بأسلوب شعبوي تحريضي مستفز حتى بات لبنان شبه دولة.

 

ممارساتٌ كانت كفيلة باستنزاف ما تبقى من صبر عند الشعب، فخرج هاتفاً ضدّ العهد، وضدّ الحكومة، وضدّ قانون انتخاب هجين أوصل سلطة تظن أن شرعيتها مستمدة من خطاب انقسامي يؤسّس لحرب أهلية جديدة. باختصار خرج الشعب معلناً رفض تحالف السلاح والفساد.

 

حتى وإن بدأت الاحتجاجات على فكرة خرقاء تتصل بتحصيل رسوم على خدمة «واتساب»، أثبتت الأيام السبعة من هتافات الجماهير التي بدا وكأنها تكتشف جمال العلم اللبناني للمرة الأولى، أن المسألة أكبر وأعمق. هي مسألة سلطة مأزومة لا تعرف إلا الهروب للأمام، وبناء جدران الخوف بين المكونات اللبنانية وزرع الشقاق بينهم، وتسويق الكذب والخداع، والانتهاب المقونن للمال العام وتقاسمه من دون خجل أو خوف، وعلى السمسرات والمحاصصة. نزل الشعب لأنه لم يعد لديه ما يخسره في مواجهة سلطة الزعامات والحواشي والمنتفعين.. هتف الشعب هذه المرة «كلن، يعني كلن».

 

منذ البداية، ردُّ تحالف السلطة بدا باهتاً وغير مبالٍ، أولاً من خلال الخطاب الاستفزازي لوزير العهد جبران باسيل، حيث تعمد استفزاز الشعب من منبر قصر بعبدا، تلاه كلام الرئيس سعد الحريري طالباً إمهاله للتصرف!! ثم حملة قمع ومطاردة وظهور مسلح في المناطق، فكلام أمين عام «حزب الله» الذي بدا وكأنه تهديد للمتظاهرين، وقطع للطريق أمام مطالباتهم بالتغيير أو معارضة العهد.. وفي كل ذلك برز الغياب المدوي للرئيس القوي الذي اعتصم بصمت وإنكار ومكابرة… وصولاً إلى «الورقة الإصلاحية» التي صيغت على عجل بقصاصات من أوراق «سيدر» وخطة «ماكينزي» ووعود كل البيانات الحكومية المتعاقبة، وهي وعود ما عادت تنطلي على الداخل أو الخارج.

 

وفي تقدير كثيرين، الورقة الإصلاحية تحتاج أمرين: عهداً جديداً بحكومة جديدة وإجراءات شفافة وسريعة، وإلى ثقة، إذ الأزمة القائمة أزمة ثقة لا أزمة إجراءات وأوراق إصلاحية أو أرقام ومعدلات.

 

قبل أشهر، نقل عن سفراء دول الاتحاد الأوروبي في لبنان «استياءهم من قلّة المسؤولية الوطنية التي تَسِم تصريحات ومواقف عدد من المسؤولين»، واستغرابهم «كيف أنّ بلدًا على شفير الهاوية لا يزال مسؤولوه يتصرفون بهذه الطريقة ولا يعطون الأولوية للقضايا الوطنية والاقتصادية»، قبله وبعده أسمع الموفد الفرنسي المكلف متابعة مقررات مؤتمر «سيدر» بيار دوكان المسؤولين اللبنانيين كلاماً قاسياً حول إخفاق لبنان بتنفيذ ما التزم به أمام المانحين لناحية الإصلاحات المطلوبة لمواكبة مسار ترجمة مقررات «سيدر» والتي تخضع لرقابة فرنسية صارمة.. كل ذلك يلخص وبشكل دقيق مجمل المشهد اللبناني، فالملفات المعقدة والضاغطة، وحديث التفليسة المتعاظم، وسياسة المناكفات، والغياب المدوي لأي إجراءات علاجية لا تعطل عمل الحكومة (بالمناسبة اسمها حكومة إلى العمل) فحسب، بل تفتّت الدولة شيئاً فشيئاً، أضف إلى ذلك العقوبات الأميركية الجديدة على مسؤولين في «حزب الله» وعلى أحد المصارف التي ترتب عليها مزيد من الحصار المالي والحدّ من التحويلات الخارجية، واستسهال الطبقة الحاكمة فرض الضرائب لتمويل العجز من جيوب الفقراء والطبقات الوسطى.

 

عناوين كثيرة للتأزم، فيما الطبقة الحاكمة تعيش ترفاً سياسياً لا يتناسب أبداً مع حجم المخاوف وضخامة التحديات التي تواجه البلد في السياسة والاقتصاد والمال والخدمات وسوق العمل؛ من تعطيل عمل الحكومة إلى صراع الأجهزة وكيديات الإدارة، ومن الكهرباء إلى النفايات والمحارق.. وقبل كل ذلك البطالة وأزمة الإسكان وتراجع الحريات و«الجوع القديم» لمراكمة المكاسب، في مقابل كلام شبه يومي عن انهيار مالي وشيك، كلها مؤشرات لتراجع لامسَ القعر، وبات ينذر بالانهيار الحتمي. انهيار لا يتجسد بأداء مكونات من يمسك بالسلطة، بل يطال القيم والمفاهيم والأعراف، في الدستور والميثاق والقانون والإدارة والمجتمع والجامعات والبيئة.

 

تراكم المشكلات والتراجعات والتحديات الكبرى التي تواجه لبنان، ومعها انسداد أفق الحلول الداخلية، وما يرافقها من انهيارات وطنية، ناهيك عن فشل اعتماد سياسات جادة لمكافحة الفساد كمدخل لاستمرار المساعدات الخارجية، وحصر تداعيات الفجوة الآخذة بالتوسع داخلياً، كل ذلك فرض انفجار غضب الشعب. قال الشعب كلمته، وسواء استقالت الحكومة أم استطاعت استيعاب غضب الناس وتسويق ورقتها للإصلاح، بات لزاماً إجراء مراجعة شاملة وعميقة لكل السياسات، الاقتصادية والمالية والاجتماعية والبيئية والثقافية والتعليمية والتنموية، وقبلها جميعاً معنى مرجعية الدولة والمواطنة وسيادة القانون.

 

المسألة إذن مسألة ثقة لا اجراءات وأوراق إصلاحية أو أرقام ومعدلات تضخم. الحكومة مأزومة منذ تشكيلها نتيجة الهدر والفساد والمحاصصة، لكن الأزمة في جوهرها أزمة نظام، لها وجه داخلي متصل بتجاوز الدستور والخلاف على الطائف وقانون الانتخاب، ولها وجه عربي وآخر متصل بالعلاقة مع المجتمع الدولي… وفي كل ذلك لا يفيد استقالة الحكومة أو بقاؤها، بل له كلام آخر يتردد صداه في الساحات والشوارع وعلى ألسنة المتظاهرين.. وله حديث آخر.