لا تزال السلطة تتعامل مع ثورة ١٧ تشرين على انها حراك محدود، وتعتبر انها مع أدواتها في الشارع، قادرة على قمعه وإفشاله! الا ان الاستمرار بالمكابرة والتجاهل والإنكار لن يلغي الواقع المستجد وبقوة، ألا وهو ان لبنان انتفض من مناطقه الأشد حرماناً شمالاً وبقاعاً وجنوباً، مرورا بجبله المحروق، وصولا الى عاصمته التي تحتضن كل الشرائح والاتجاهات، والتي أظهرت ان الرفض للتمادي بسياسات النهب والتغطية على الفساد والفاسدين على حساب الطبقة الفقيرة لم يعد مقبولا، بل يتصدى له كل اللبنانيين بغض النظر عن طوائفهم وأطيافهم.
أما التباطؤ بمعالجة الازمة، فما هو الا دليل على غياب النوايا الحقيقية من قبل السلطة للتغيير… فأولا تم تجاهل حجم الثورة، وبالتالي لم يبد أي طرف استعداده لأي تنازل للخروج من المأزق عبر حد ادنى من التجاوب مع صرخة الشارع، مما ألهب الجماهير الثائرة على واقعها المزري، وادى الى استقالة الرئيس الحريري… غير ان أداء السلطة لم يتحسن، بل كانت ردة الفعل تأخير الاستشارات أياماً، دون الإلزام والالتزام بتواريخ محددة، وكأن البلاد والعباد بألف خير، وقادرة على تحمل ترف المقايضات والمساومات السياسية… واما المتاجرة والتضليل بشعارات رفع السرية المصرفية فلم تعد تنطلي على أحد كونها هروباً الى الإمام لأنها لا تشمل الملكيات العقارية والحسابات في الخارج ولا الأموال المهربة بأسماء وهمية و… الى ما لا نهاية.
كما ان سياسة كم الأفواه والتعتيم على الساحات، لم تعد تجدي بوجود التكنولوجيا الحديثة التي تجعل من كل مواطن مراسلاً ومندوباً ومصوراً حرّاً بالتعبير عن رأيه، متحرراً من وصاية الأجهزة عليه، وما هو الا دليل على عجز هذه السلطة عن التحاور مع جمهورها واختيارها لسياسات التعنت وتدجين الشارع بالقوة.
ولكن، مهما حاولت السلطة جاهدة اجهاض الثورة عبر تخوينها حيناً، وقمعها عبر أدواتها أحياناً، او حتى دس طوابير مشوشة ومخربة على قضايا الشعب تهدف الى شق الصفوف، فلن تستطيع محو مفاعيل ما بعد ١٧ تشرين، او تغيير الواقع الجديد: الشعب انتفض وحطم حواجز الطوائف والمناطق واكتشف ان الشقاق المزروع بين مقومات المجتمع الواحد ما هي الا اوهام، وان الهم والمعاناة والمطالب واحدة على مساحة الوطن، وطن يحلم الجميع بالعيش فيه بكرامة دون ان يحتاج للاستزلام ليحصل على ادنى حقوقه.
لقد أيقظت هذه الثورة أحلاماً كثيرة كانت قد اندثرت في عتمة نفق مظلم طويل، وأحيت الآمال بغد أفضل وبوطن نهائي لابنائه المنتشرين في بقاع المعمورة طلبا للقمة عيش صعبة المنال، وأمن مفقود ومستوى معيشة بات ادنى من المستويات المتدنية بعدما بلغت معدلات الفقر أعلاها في السنوات الاخيرة: ٣٨٪ في البقاع، ٣٦٪ في الشمال و٣٢٪ في الجنوب و٢٢٪ في جبل لبنان، حسب دراسات البنك الدولي، مع إجمالي ٣٠٪ من اللبنانيين يعيشون دون خط الفقر!
ومهما حاول البعض افراغ هذه الثورة من مضمونها او تكبيلها بتعقيدات الواقع السياسي أو حتى الإيحاء انها ان لم تسقط الرئاسات الثلاثة معا تكون قد فشلت! على العكس تماماً، مهما كانت النتائج والإنجازات على الأرض، هذه الثورة هي الخطوة الاولى في مسار تأسيسي طويل لجيل جديد واعٍ لأولوياته، متحرر من عبودية الزعامات، مقدام ليجازف بحاضره الهزيل بحثاً عن غدٍ أفضل، لم يعش انهزامات وخيبات الأجيال السابقة، وبالتالي لن يقبل بالاستسلام للواقع المرير دون بذل كل المحاولات للتغيير.
مهما كان الواقع متأزماً وأخطبوط الاحزاب محكماً قبضته على المؤسسات وشتى مفاصل الحياة السياسية، الا ان التغيير ممكن ان يتم دون أدنى شك ولو بعد حين، لان الحاجز الذي تحطم في ساحات الثورة لن يستطيع اصحاب المصالح إعادته كما كان، ولن يستطيع الزعران الموكل اليهم افراغ الساحات من محو هتافات الشعب التي صدحت في آذان المسؤولين حتى صمّتها، ومهما حاولت السلطة كم الأفواه وطمس الحقائق، سوف تبقى حقيقة واحدة لا جدال حولها ان الشعب طفح كيله من سياسات الفقر والتجويع والاستهتار بحقوقه، وأطلق صرخته بوجه كل مسؤول، وأسمع صداها في دول العالم، حيث دعمه اللبنانيون أينما كانوا وبكل الوسائل المتاحة!
حذار الوقوع في فخ الانشقاقات التي يُخطط لها، والأهم حذار الوقوع في فخ التقييم بغية الإفشال، لان ما حصل هو حجر أساس لمسلك إصلاحي طويل استعاد خلاله الشعب بعضا من ارادته المسلوبة في مجلس النواب، حيث تهدف المعركة القادمة مع السلطة إلى تصحيح أخطاء الانتخابات السابقة عبر قانون انتخابي يمثل تطلعات جيل جديد يطمح للتطور، وليس جيل اكل عليه الزمن وهو اسير عصبيته وصفقاته وأجنداته البعيدة عن وجع قاعدته الشعبية.