IMLebanon

إنّ تشرين لناظره… «ستين»!

عندما أطلق الرئيس نبيه بري مبادرته الحوارية في شهر آب من العام الماضي، قدّمها كـ»نداءِ استغاثة» للخروج بالبلد الى برّ الأمان. وحدّد جدول أعمالها بسبعة بنود: رئاسة الجمهورية، تفعيل عمل مجلس النواب، تفعيل عمل مجلس الوزراء، ماهية قانون الانتخابات النيابية، قانون استعادة الجنسية، مشروع اللامركزية الإدارية، وتسليح الجيش.

استجابت القوى السياسية لنداء بري، وحضرت الى الحوار راضية بجدول جدول أعمال السبعة بنود، وبلا تحفّظات على أيٍّ منها، وبلا تخوّفات من مؤتمرات تأسيسية أو محاولات لنسف «الطائف» أو القفز فوقه. وبالفعل دار الحوارُ دورتَه، ونجح في الاتفاق على تفعيل الحكومة، وفي الالتفاف حول بند الجيش، ولكنه علق وصار يدور حول نفسه عند البنود المتبقّية.

في الملف الرئاسي، داخ المتحاورون وهم يدورون حول مواصفات الرئيس… كلٌّ منهم وضع مواصفات رئيسه وفصّلها على مقاسه، والنتيجة دوران في حلقة مصالح مفرغة.

وفي القانون الانتخابي، تحوّل المتحاورون الى خيّاطين، حمل كلٌّ منهم مقصّه، وصار يطرّز الدوائر ويحبكها وفق مساحته الشعبية والتمثيلية وبطريقة الغائية لكلّ الآخرين.

هنا صار الحوار طبخة بحص، لا بل صار عبئاً حتى على المتحاورين أنفسهم، خصوصاً بعدما لاحظ بري أنّ هناك مَن يتعمّد إقفالَ كلّ الطرق المؤدّية الى قانونٍ انتخابيٍّ جديد يلبّي ولو الحدّ الأدنى من سلامة التمثيل لكلّ الفئات.

اتّهم بري هؤلاء صراحة بأنهم عن قصد أو عن غير يستحضرون قانون الستين، ويخيّرون ويضعون البلد أمام خيارين كلاهما اسوأ من الآخر؛ إمّا قانون الستين الذي يشكل تمديداً بالانتخاب للخريطة النيابية الحالية، وإمّا التمديد للمجلس النيابي الحالي. وقد حسمها بري هنا «يحلم مَن يفكر في التمديد لمجلس النواب، ليكن معلوماً التمديد من سابع المستحيلات، ولو اجتمعت كلّ الدنيا فلن أسير به مهما كلف الأمر».

مع ذلك بقي الحوار تائهاً في حلقة الفراغ ذاتها، حتى كاد برّي يبقّ البحصة ويعلن فشل المتحاورين، إلّا أنّه قرّر ألّا يستسلم لهذا الفشل، وألّا يحقق هدف «المفشِّلين»، فاستعان بالمثل الشعبي القائل «كثرة الدّق تفكّ اللحام»، ودخل على المتحاورين باقتراح الذهاب الى «دوحة لبنانية» تترجم بخلوات متتالية لأركان طاولة الحوار تبحث في الرئاسة والقانون الانتخابي والحكومة، لعلّها تُنتج حلاً، ومنعاً لأيّ تأويل أو تفسير قرّ الرأي على تسميتها جلسات متتالية وتمّت الموافقة بالإجماع على أن تعقد في 2 و3 و4 آب المقبل.

راهن برّي على هذه الجلسات، إذ إنّ جدول أعمالها ليس مُختَرعاً بل هو البنود الباقية من الحوار، وربما يُعثر فيها على مفتاح الحلّ. ولكن كانت المفاجأة بمسارعة بعض الأصوات الى الارتفاع اعتراضاً على تلك الجلسات على اعتبار أنها تقود الى «مؤتمر تأسيسي». والغريب في الأمر أنّ تلك الأصوات هي نفسها التي وافقت عليها على طاولة الحوار، أو هي أصوات حليفة لهؤلاء، أو هي من الكتلة النيابية أو السياسية ذاتها.

هنا قرأ بري أولى إشارات التفشيل لجلسات آب، وجوابه كان مقتضباً «إن كانوا لا يريدون فماذا أفعل لهم. ولكن ليعلم الجميع أن لا أحد يتكلم أو تكلم عن المؤتمر التأسيسي من قريب أو بعيد، كلّ الأمور تجرى تحت سقف «الطائف»، وهذا ما تمّ التأكيد عليه أمام الجميع في جلسة الحوار».

ويبدو أنّ محاولات التشويش والتفشيل لم تتوقف بعد خصوصاً أنّ تلك الأصوات ما زالت تواصل العزف على وتر «المؤتمر التأسيسي.. ونسف الطائف». إلّا أنّ بري أعاد الكرة الى هؤلاء بوصفه الجلسات الثلاث في آب بـ«الخرطوشة الأخيرة» لبلورة حلٍّ متكامل ينهي الحال الشاذة التي يعيشها البلد. لن أقول إنني متفائل أو متشائم، وضعنا سيّئ وصعب، هناك فوضى وفلتان يضربان كلَّ شيء ولا نريد لبلدنا أن ينهار، لذلك كلّ ما آمله هو أن تكون تلك الجلسات منتجة، وهذه هي طريقنا الوحيد للسير بالبلد الى برّ الأمان.

ولكن ماذا لو أطلقت تلك «الخرطوشة الأخيرة» دون الاستفادة منها؟

ساعتئذ، والكلام لبري «أبشر بطول بقاء يا ستين»، وهنا ينعى رئيس المجلس أيّ إمكانية للوصول الى حلٍّ إذا ما فشلت تلك «الخرطوشة»، «إذ إنّ الوقت سيداهمنا، لدينا فرصة ثمينة في آب، والحدّ النهائي لإمكانية بلوغ حلول في تشرين المقبل، فعندها لن يكون بإمكاننا فعل شيء، بل سنجد أنفسنا جميعاً أمام حتمية إجراء الانتخابات النيابية على أساس القانون الحالي».

وسط هذه الأجواء غير المشجّعة، ماذا عن مصير جلسات آب؟

لعلّ الجواب يكمن في هذا السيناريو المفترض: «تُعقد الجلسات الثلاث متأثرة بالأجواء السلبية لبعض القوى السياسية، بري يفتتحها بكلمة يحدّد فيها المخاطر وضرورات الوصول الى حلول ومخارج، وبعده يتناوب ممثلو القوى السياسية على الكلام، فيستحضر الكلام ذاته الذي سبق وأغرق طاولة الحوار وبالنتيجة.. «لا نتيجة» ما يعني ثمّة استحالة في إمكان التوصل لا الى بتّ الملف الرئاسي، ولا الحكومي، ولا صيغة قانون انتخابي جديد عادل، لأنّ كلَّ طرف يريده على مقاسه ويرفض القبول بأيّ قانون لا يؤمّن له الغلبة، أو يشمّ فيه رائحة إفادة للفريق الآخر… وعلى هذا الأساس سينفض عقد المجتمعين مع التسليم الضمني بالإبقاء على الوضع الحالي رئاسياً وحكومياً، وعلى القانون الانتخابي الحالي».

وهنا، ووفق السيناريو المفترض، ومع التسليم ببقاء الستين، يبرز خياران، الأول، انتظار موعد انتهاء الولاية المجلسيّة وإجراء الانتخابات خلال الستين يوماً السابقة لانتهاء الولاية في مطلع صيف العام المقبل، والثاني أن يُصار الى تقديم اقتراحٍ نيابيّ بتقصير الولاية المجلسيّة الممدّدة الى أول السنة وبالتالي إجراء الانتخابات النيابية.

ومع المجلس الجديد الذي سينبثق عن هذه الانتخابات، تُعتبر حكومة تمام سلام مستقيلة وتدخل في تصريف أعمال، وهذا معناه مزيد من الشلل وربما سلبيات غير محسوبة، على كلّ المستويات السياسية والإقتصادية والأمنية، ما قد يدفع الى تحريك مطالبات مكثّفة بإعادة تفعيل البلد من جديد وردّ الروح اليه، وثمّة طريق وحيد لذلك يمرّ عبر انتخاب رئيس الجمهورية.

ولكن أمام هذا الوضع هل ستبقى القوى السياسية المعنية بالرئاسة على عنادها، أم انها ستفسح الطريق وتنزع عنه كلّ مطباتها؟ والأهم كيف سيتمّ إلزام الطباخين الإقليميّين والدوليّين بالإفراج عن رئاسة الجمهورية… وماذا إذا قرّروا إبقاء الرئاسة سجينة الإرادات الإقليمية والدولية… وأمام أيّ لبنان سنكون آنئذ؟