تتدفّق الملفات على طاولة مجلس الوزراء وتنشط اللجان النيابية في أكثر من اتجاه. الجميع يرفع شعار محاربة الفساد، تحت ضغط هائل من المجتمع الدولي الذي يربط تنفيذ مقررات «سيدر» والإفراج عن أمواله بخطوات إصلاحية ملموسة، وشفافية من قبل المؤسسات الرسمية.
إلا أن التخبّط الداخلي لا يزال على حاله، فمكافحة الفساد تبقى تمنيّات شعبية في ظل تورّط رسمي واسع وعجز في مقاربة هذا الملف بموضوعية، حيث يميل كل فريق لتلميع صورته وتمكين حصانته، وبالتالي استثماره للنيل من الخصم، مما ينقل المشكلة من إنقاذ المال العام إلى تصفية الحسابات الشخصية، من دون تقديم حلول فعلية!
إن فضيحة التوظيف التي تمّت قبيل الانتخابات النيابية وأرقام الهدر التي رافقتها هي غيض من فيض، حيث تُظهر تدني الأداء السياسي الذي استسهل طريق الرشاوى بدلاً من تقديم الخدمات والعمل الإنمائي، فكان شراء الأصوات عبر التوظيف العشوائي وعلى حساب خزينة الدولة، أما الإعفاءات الضريبية لكبرى المؤسسات والتي يُفترض أن تتبادل الدعم مع الدولة لا أن تصبح عبئاً على الخزينة بفعل الالتفاف على القوانين واستغلال السلطة، فهي لا تقل أهمية، كونها مبالغ طائلة ومعظمها مؤسسات تابعة لمرجعيات سياسية هي نفسها تحمل شعلة محاربة الفساد… من دون أن ننسى الأملاك البحرية والتي تندرج تحت عنوان التهرّب الضريبي، وهي من أكبر مزاريب الفساد وأموال الدولة الطائلة المهدورة.
أما الكهرباء وملفاتها الشائكة، والتي ينطوي كل تفصيل فيها على لغم وعلى أزمة، فهي أمّ الهدر، من حيث الإنتاج والتحصيل على الصعيد المحلي، ومن حيث التلزيم وضبابية الخيارات في اعتماد الصفقات على الصعيد الخارجي، فلا يزال خضوع هذا القطاع، وعلى الرغم من أنه تحت المجهر الدولي للتأكد من شفائه من داء الفساد، لا يزال يحاول الإفلات من هيئة إدارة المناقصات، المرجعية الرقابية الطبيعية للتلزيمات، مما يفتح شهية سائر القطاعات للإفلات من الجهات الرقابية الملزمة، وهي الخطوة الفعلية الأولى لمكافحة الفساد فعلاً لا قولاً!
إن الإجراءات المالية المُوجعة التي تحتّم وزارة المالية اتخاذها لتقليص العجز وتحسين واردات الدولة، لا بد أن توجع رؤوس الفساد الكبرى أولاً، ولو كانت من أصحاب الحصانات، واقتراح الوزير خليل اقتطاع جزءٍ من رواتب ومستحقات الوزراء والنواب الحاليين والسابقين يشكل خطوة جدّية أولى في رحلة الألف ميل، وهذا أقل ما يمكن أن تقدّمه طبقة سياسية أمعنت في نهب الدولة ونشر ثقافة الفساد لدرجة غرقت هي به ولم تعد تدرك من أين تبدأ للخروج من مستنقعه، شرط ألا تقتصر إعادة تحصيل أموال الدولة عند هذا الحد، في حين يكمن الهدر الأكبر في المرافق ذات المداخيل العالية كالجمارك والضرائب، والتي يُفترض أن تشمل الجميع دون تمييز، جباية المستحقات دون أن يكون صيف وشتاء تحت سقف واحد، مكافحة الفاسدين من أعلى الهرم لأسفله، وليس العكس كما نشهد اليوم، وصولاً لشدّ حزام الإنفاق الرسمي الذي بات يُشكل نقطة استفهام كبرى لدى الدول المانحة قبل القاعدة الشعبية، حيث تُمعن الوفود الرسمية اللبنانية، على سبيل المثال لا الحصر، بالإسراف من جيب خزينة الدولة المفلسة أصلاً والتي تسعى للحصول على المنح والمساعدات، تحت أنظار المجتمع الدولي الذي يشك بجدوى دعم دولة واقعة رهينة طبقة سياسية فاسدة وغير آبهة بالحفاظ على المال العام!
على أمل أن يعي المسؤولون، قبل فوات الأوان، أن الحلول الوسطى والتذاكي ووهم «الفهلوية اللبنانية» لا ينفع مع دول تحترم قوانينها، والأهم تحترم شعوبها التي تحاسبها على كل قرش أنفقته في غير محله، خاصة إذا كان في دعم دولة باتت تُعرف بالفساد وسياسييها الفاسدين، مما يعني القضاء على الفرصة الأخيرة لالتقاط الأنفاس وإنقاذ الاقتصاد، وبالتالي انتشال البلد من الوقوع في هاوية الإفلاس المالي والسياسي على حد سواء…!