في العالم صراع دول وحضارات، وفي العالم العربي والاسلامي صراع دول وهويات، وهو قديم العهد، متواصل من جيل الى جيل منذ مطلع القرن العشرين الى اليوم.
مسألة الهوية، الوطنية والقومية أوما دون، طغت على مشروع الدولة الحديثة او تلازمت معها في العالم العربي والعالم المحيط به، ولأسباب متباينة، من تركيا الى ايران وصولا الى اسرائيل.
البداية، تاريخيا، مع الامبراطورية العثمانية، “رجل اوروبا المريض”، الذي لم يلبث ان فارق حياة “المسألة الشرقية” في الحرب العالمية الاولى بعد صراع مرير بين الدول الاوروبية الكبرى والسلطنة طوال قرن كامل. وانتقلت تركيا من الامبراطورية الى الدولة الحديثة، المنقطعة عن تراثها وتاريخها، بقيادة مصطفى كمال اتاتورك. ومنذ اوآخر القرن التاسع عشر بدأت القومية التركية تنمو لاسيما في اوساط النخب السياسية والثقافية الى ان استأثر اركانها بالسلطة في 1908 واستطاعت لاحقا ان تنشىء هوية قومية جديدة على ركام دولة الخلافة واصطدمت بشعوب وهويات اخرى، الارمن والاكراد تحديدا، في حملة ابادة جماعية موصوفة.
وها هي اليوم تنتقل من “الكمالية” الى “الاردوغانية” بوسائل اكثر حداثة وتمكنا، من باب النهوض الاقتصادي المعولم. الا ان الضوء في آخر النفق “الاردوغاني” يتمثل باعادة الاعتبار الى الهوية الاسلامية للدولة والمجتمع، واذا امكن تحييد العلمانية او تعطيل مفاعيلها على رغم جذورها الضاربة في عمق التجربة التركية منذ عشرينات القرن المنصرم الى اليوم.
في ايران هوية جديدة تبلورت مع العائلة البهلوية من موقع السلطة والحكم واتخذت من التجربة الكمالية نموذجا لم يصل الى الحد الذي وصلت اليه تركيا العلمانية. هذه الهوية المستمدة جذورها التاريخية من الحقبة الصفوية استمرت نحو نصف قرن الى ان استعادت ايران هويتها الاسلامية “الثورية” في مطلع ثمانينات القرن الماضي وباتت الدولة في عهدة الوالي الفقيه على رغم عدم امتثال مرجعيات دينية شيعية كبرى بهذا الواقع الجديد. وفي الجانب الغربي من الشرق الاوسط الجديد-القديم، دولة يهودية سعت اليها الحركة الصهيونية المنطلقة بزخم من اوروبا الغربية في اواخر القرن التاسع عشر، لاعطاء الأمة اطارا لدولة الشعب اليهودي في فلسطين على حساب شعب فلسطين وارضه وهويته العربية. وها هي اليوم اسرائيل، بعد نحو 70 عاما على اعلان الدولة اليهودية، تسعى الى قوننة الهوية اليهودية لدولة اسرائيل اليهودية.
وفي العالم العربي مشاريع هويات متعددة. مشروع الدولة الاسلامية الوهابية انطلق من الجزيرة العربية في مطلع القرن التاسع عشر واقام دولة ملكية في القرن العشرين. وفي مصر طغت الهوية المصرية- الفرعونية على الدولة الحديثة منذ محمد علي، الى ان اعتنقت الدولة القومية العربية في زمن الناصرية. وفي عهد الرئيس السادات استعادت مصر هويتها الوطنية المناهضة للناصرية وخلفيتها القومية واستعادت الحركات الاسلامية بعض نفوذها، الى ان شكلت الحالة الاكثر تماسكا وتنظيما بعد سقوط نظام الرئيس مبارك، وهي اليوم في صدام مع دولة غير محددة الهوية بقيادة الرئيس السيسي الآتي من المؤسسة العسكرية التي تصدت للاسلاميين في مختلف تحولات حقبات السلطة منذ سقوط الملكية.
في المشرق العربي هويات بالجملة، حيث المخزون التاريخي والفكري والايديولوجي للقومية العربية والسورية واللبنانية ولسواها من مشاريع قومية لم ترَ النور وفي مقدمها مشروع الدولة الكردية. “عجقة” مشاريع هويات، حديثة وقديمة مرممة، تجاوزت الدولة وحدودها وان كانت انطلاقتها في كنف دول لم تعترف بكيانها. اوهام واحلام طغت على جيل كامل من العرب، على مستوى النخب والشعوب، وتحصنت بالقضية الفلسطينية لتحرير الامة من الاستعمار الغربي والصهيوني على حد سواء. اما الاسلاميون فكانوا في الانتظار، الى ان أتت الساعة، فكان “الاجتياح” الاسلامي للدولة والمجتمع في السنوات الاخيرة في ربيع بدأ عربيا وانتهى صراعا على السلطة بين الهويات الاسلامية المتشددة والاكثر تشددا.
انتشرت القومية العربية من المحيط الى الخليج، وعلى حصانها وصل العسكر الى السلطة وباتت الاحزاب امتدادا لحكم القائد الاوحد الذي اختزل السلطات جميعها. استطاعت دولة الحاكم ان تبني جيوشا ومنظومات امنية فاعلة. هذه القلاع انهارت بعد ان تصدّع بنيانها وازدادت طموحات قادتها واتت جيوش الخارج وجيوش الدين لمحاربة الكفار ولفرض الهوية الاسلامية بالقوة على “العدو الاقرب” من اهل البلاد.
صراع “الهويات القاتلة” باسم الدولة والقومية والدين يميز العالم العربي عن سواه من الانظمة الاقليمية بعد ان عادت الشعوب الى الانتماءات الاولية للحماية الذاتية وتلاشت السلطة بكل مكوناتها. انه مسار (cycle) جديد سيأخذ مداه في المدى المنظور وسيترك وراءه ضحايا، جماعات وافراد، واشلاء دول في نظام دولي يعمل بـ”المياومة” ويحركه صراع حضارات لا صراع هويات.