Site icon IMLebanon

القديم يستعرض قِدَمه

لو حُذفت الإشارات الدالة على الزمن في احتفال «التيار الوطني الحر» الأخير، لصح الاعتقاد أن التجمع حصل قبل عقود من اليوم.

فالتنظيم والحشد وأسلوب دخول المشاركين وعريف الحفل الرافع زعيمه إلى مرتبة أنصاف الآلهة، وإحاطة هذا الأخير بمراسم تضفي عليه غموضاً وهيبة، تنتمي كلها إلى زمن الجماهير المؤمنة بالقائد المعصوم، المبهورة بعظمته وحكمته وبحديثه الذي يبدو كأنه محفور على رخام النصب التاريخية.

يهون ذلك أمام مضمون الكلام والتشابيه والاستعارات التي تتراوح مصادرها بين الكتاب المقدس والحِكم القروية واستعراض للرجولة ومعاني الفروسية، حتى ليبدو أن كاتب الخطاب مشبع بكتب وروايات الجبل اللبناني في القرن التاسع عشر ولم يتجاوز صفوف المدرسة الابتدائية. خاطب زعيم «التيار» ميشال عون في كلمته أشخاصاً وجهات غير محددة اختصرها بالضمير «هم». «هم» استعانوا بالأجنبي ونهبوا المال العام وتآمروا عليه. وتجهيل المُخاطَب دليل احتقاره وتبخيس قيمته، وهو أسلوب معتمد من خطباء الحماسة أجمعين.

أما عندما يريد توجيه ضربة قاضية إلى خصومه المجهولين – المعلومين فلا أحسن من خزانة الأمثال الشعبية، فنهاية الإرهاب قد أزفت لأن «إجا مين يعرفك يا خرّوب ليعصرك». العاصر هنا هو على الأرجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وهذه نفحة أخرى من نفحات القرن التاسع عشر عندما كان قادة الطوائف/القبائل يستقوون على بعضهم البعض بالاستعانة بالدول الأجنبية وقناصلها وأساطيلها. تؤيد الاعتقاد هذا، صور بوتين المرفوعة بين المشاركين في الاحتفال وعلى سياراتهم.

ضمن هذه التركيبة، يستوي القائد الملهم المرشد للشعب – بغض النظر عن اسمه أو اسم حزبه وتياره – إلى درب النصر الأكيد والمقدم تضحيات جليلة فداء الهدف الذي لا يؤخر تحققه غير كيد الكائدين وتآمر المتآمرين، يستوي على عرش ممارسات وخطاب تعود إلى مئات الأعوام من الزعامات الطائفية والقبلية، لامست أيديولوجيا القومية الشوفينية بعضها، فتورّم.

هذه الصورة من احتفال «التيار الوطني الحر» بذكرى هزيمته أمام القوات السورية التي اقتحمت القصر الجمهوري في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990، تنطوي أيضاً على المضمون القديم للتجمعات والحشود الشعبية من تعبئة الجمهور المؤيد وحمله على تقبل بذل المزيد من الجهود لنصرة «القضية» من جهة، وتوجيه رسائل إلى الزعامات المنافسة ومؤيديها بضرورة أخذ أصحاب الحشد على محمل الجد، من جهة ثانية.

بيد أن «التيار الوطني الحر»، الوفي لتراث الاحتفالات اللبنانية واستعراضاتها وزجلها، غفل أن لبنان اليوم قد تغير كثيراً عن ذاك الذي شكل الأرض الخصبة لهذا النوع من الزعامات والتيارات والأحزاب. وفي الوقت الذي كان «التيار» يحيي ذكرى انكساره ويرتقه بالعزم على الانتصار والانتقام (من غير مسببي الهزيمة الأولى الذين باتوا في حكم الحلفاء)، كان عشرات الشبان يقبعون في السجون بعد توقيفهم في إطار التظاهرات التي شهدها وسط بيروت قبل أيام من احتفال «التيار»، وينتظرون تحويلهم إلى المحكمة العسكرية.

هذا التضارب الصارخ بين واقعين ورؤيتين على أرض صغيرة واحدة، لا يقول بالاتجاهين المتعاكسين اللذين يجذب كل واحد منهما اللبنانيين إلى جهة فحسب، الأولى ماضوية تدعي الثقة بنفسها وهي تراقب احتضارها والثانية مستقبلية متخبطة ومرتبكة، بل يقول أيضاً، أن إمكانات إعادة اللحمة إلى نوعين من «السياسة» على هذه الدرجة من التنافر، باتت شديدة الصعوبة.