في خيمة بسيطة على أطراف إحدى القرى اللبنانية، جلس أبو علي يتأمل الأفق. كان يوما مزارع زيتون، لكن حرب «إسرائيل» على لبنان أجبرته على النزوح. يروي لصحيفة «الديار» معاناته، قائلًا: «في الماضي، كنا نعمل في حقول الزيتون وننتظر موسم الحصاد بشغف، لكن اليوم تغير كل شيء”.
يضيف أبو علي: «مع تصاعد النزاعات، فقدنا الوصول إلى أراضينا. والآن، أصبح سعر تنكة الزيت يتجاوز 160 دولارا، بعد أن كان يتراوح بين 90 و120 دولارًا في العام الماضي. كيف يمكن لعائلة مثل عائلتي تحمل هذه الأعباء»؟
رغم الأوضاع الصعبة، لا يزال أبو علي متمسكا بالأمل: «نحن نواصل العمل ونأمل في العودة إلى أراضينا واستعادة حياتنا الطبيعية. زيت الزيتون ليس مجرد منتج، بل هو رمز لثقافتنا وتاريخنا”.
فمع بدء موسم الزيتون لهذا العام، تبدو الأمور أكثر تعقيدا من مجرد تقلبات مناخية أو اقتصادية. فالحرب المتصاعدة في منطقة الجنوب، وخاصة في المناطق الحدودية، ألقت بظلالها الثقيلة على هذا الموسم الذي يُعتبر جزءًا لا يتجزأ من التراث الزراعي والثقافي للمنطقة. إذ حُرم العديد من المزارعين من الوصول إلى أراضيهم لقطف ثمار الزيتون نتيجة للظروف الأمنية غير المستقرة. هذه التحديات لا تقتصر فقط على الجانب الزراعي، بل تمتد لتصبح أزمة اقتصادية واجتماعية، حيث تعتمد العديد من العائلات في تلك المناطق بشكل أساسي على عائدات الزيتون كمصدر رئيسي للدخل.
آثار التوترات الأمنية على الزراعة
الأزمة الزراعية التي تعاني منها المناطق الجنوبية ليست ناتجة عن الظروف الجوية فحسب، بل تتأثر أيضا بالتوترات السياسية والعسكرية. فالحرب الأخيرة، بما في ذلك استخدام قنابل فوسفورية من قبل اسرائيل، أدت إلى تدمير البيئات الزراعية وأشجار الزيتون، مما يهدد بشكل مباشر المحاصيل.
كما أن هذه المواد الكيماوية تعتبر من أخطر الأسلحة المستخدمة، حيث تؤثر بشكل غير مباشر على صحة المزارعين وسكان المناطق المحيطة. وقد اشتكى العديد من المزارعين من عدم قدرتهم على الوصول إلى أراضيهم لقطف المحاصيل، مما يهدد معيشتهم ومستقبل أسرهم.
ارتفاع الأسعار وتأثيرها على المجتمع
ومع انكماش الإنتاج، بدأت أسعار زيت الزيتون في الارتفاع بشكل ملحوظ، حيث بلغ سعر «تنكة» الزيت هذا العام ما بين 140 و160 دولارا، بينما كانت الأسعار في العام الماضي تتراوح بين 90 و120 دولارا. الأمر الذي زاد من معاناة الأسر التي تعتمد بشكل أساسي على زيت الزيتون.
هذا الارتفاع في الأسعار أدى إلى ظهور تأثيرات اقتصادية غير مسبوقة على العائلات، حيث تضطر العائلات إلى تقليل استهلاكها أو البحث عن بدائل أقل تكلفة. وفي مواجهة هذا التحدي، فاقترحت بعض التقارير، مثل تقرير صحيفة «الإندبندنت»، بدائل زيت الزيتون الأقل تكلفة، مثل زيت بذور اللفت وزيت عباد الشمس والزيت النباتي وزيت السمسم. هذه البدائل قد تكون خيارًا مناسبًا للمستهلكين الذين يسعون لتقليل نفقاتهم دون التضحية بالجودة الكاملة.
عكار: بؤرة الإنتاج وواحة الزيتون
في ظل هذه الظروف القاسية، تبرز منطقة عكار كأحد المراكز الرئيسية لإنتاج زيت الزيتون في لبنان. فقد ارتفعت رقعة الأراضي المشجّرة بالزيتون في عكار إلى حوالي عشرة آلاف هكتار، ويبلغ عدد معاصر الزيت في المنطقة أكثر من 125 معصرة. تتميز بعض المعاصر بالحداثة والتقنيات المتطورة، في حين لا تزال هناك معاصر تعتمد على الطرق التقليدية في الإنتاج.
وتعتبر ضيعة بقرزلا واحدة من أبرز المناطق في عكار، حيث تُعد ثاني أكبر ضيعة من حيث إنتاج الزيتون. وقد تمثل هذه الضيعة قوة صمود المجتمع المحلي، حيث يتم إنتاج حوالي 50 ألف تنكة زيت زيتون سنويًا في موسم «الحمال»، بينما يصل الإنتاج في موسم «المحل» إلى 10 آلاف تنكة. ورغم الظروف الصعبة، لا تزال أسعار زيت الزيتون في بقرزلا ثابتة، حيث تراوحت بين 95 و110 دولارات، مما يعكس التزام المجتمع المحلي بجودة الإنتاج.
الجودة والتميز: زيت الزيتون من بقرزلا
رئيس بلدية بقرزلا، حنا سمعان، يتحدث لـ”الديار»بفخرعن جودة زيت الزيتون من المنطقة، مشيرًا إلى أن خصائص التربة والمناخ تلعبان دورًا أساسيًا في ذلك. يقول سمعان: «زيت الزيتون في بقرزلا هو من بين الأفضل في العالم. ترتفع منطقتنا عن سطح البحر بمقدار يتراوح بين 250 و350 مترًا، مما يمنح الزيت نكهة مميزة وجودة عالية.» ويضيف: «نحن ننتج زيتًا يتمتع بمستويات منخفضة من الحموضة، مما يجعله مثالياً للاستخدام اليومي وللصحة”.
ويشير سمعان إلى أن السعر الثابت للزيت في بقرزلا قد ساعد في الحفاظ على استقرار السوق المحلي، حتى في ظل الظروف القاسية. قائلًا: «على الرغم من الحرب والأزمات الاقتصادية، نواصل إنتاج زيت الزيتون الذي يلقى طلبًا عاليًا. لدينا قاعدة مستهلكين مخلصين يعترفون بجودة زيتنا، مما يعزز مكانتنا في السوق”.
تحليل جودة زيت الزيتون
يتم قياس جودة زيت الزيتون من خلال تحليل علمي دقيق، حيث تُستخدم تقنيات مختبرية لتحديد درجة الحموضة وجودة الزيت. يتم ذلك عن طريق وضع 30 جرامًا من الكحول – خليط الأثير في القارورة، ثم يُضاف 10 غرامات من زيت الزيتون. تجرى عملية المعايرة حتى يتحول اللون الأصفر إلى الأحمر، مما يشير إلى وجود حمض الأوليك بمعدل مقبول. تعتمد الجودة على نسبة الحموضة، حيث تفضل النسب المنخفضة للحصول على زيت لذيذ ومتميز.
وبين التحديات الأمنية والأبعاد البيئية، يواجه موسم الزيتون لهذا العام معوقات عدة تهدد بقاء هذه الصناعة التقليدية. ومع ذلك، تبقى مناطق مثل عكار رمزًا للصمود والإرادة، حيث يُظهر المزارعون تفانيهم في الحفاظ على تراثهم الزراعي رغم الصعوبات. يبقى السؤال: كيف يمكن أن نحافظ على هذا التراث الزراعي ونضمن استمراريته في وجه الأزمات المتعاقبة؟ فإن تعزيز الوعي البيئي والاجتماعي، ورفع مستوى الدعم الحكومي للمزارعين، يمكن أن يكونا خطوات فعالة نحو إيجاد حلول طويلة الأمد لهذه الأزمة.