يحلو لكثيرين الزعم بأنهم شركاء في النجاحات والانتصارات، كما يدعي آخرون أن لهم ما ليس لهم، أو أنهم شاركوا في صنع القرارات. لكن شتان ما بين الحقيقة والروايات، خصوصاً تلك التي يكون الاموات شهوداً عليها. أروي في هذه السطور مشاهدات وشهادات عن حقبة لا تمحى من الذاكرة، لست بطلها بالتأكيد.
ما ان تدخل الطبقة الخامسة من “النهار” حتى تشعر بشيء مختلف. قبل الذكريات، هناك الواقع. عند المدخل صورة الصفحة الأولى من “النهار”. عليها صورة جبران تويني يتلو قسمه والعنوان الشهير “جبران تويني لم يمت والنهار مستمرة”. هذه “المانشيت” التي أصبحت شعاراً لأسرة “النهار”. في الداخل تقع عيناك على مكتب سمير قصير الشهيد الآخر، ولوحة معدنية تؤرخ لمولده، ولولادته الثانية يوم استشهاده.
تلك الطبقة من “النهار” خلعت عنها ثوب الصحافة العام 2005، لتصير طبقة الشباب. هنا مكاتب “نهار الشباب”. وهناك قاعة “مركز النهار للتدريب” التي تحولت غرفة عمليات. فوقها، في الطبقة السادسة، كانت غرفة الاجتماعات لقوى 14 آذار، لم تكن امانتها العامة قد نشأت بعد. كانت مكاتب “النهار”، مع جبران تويني، هي الامانة والشاهد.
مخيم الشباب في ساحة الشهداء، ساحة الحرية، ولد في شكل تلقائي، لم يكن قراراً فوقياً، فوجىء به السياسيون المجتمعون عند جبران تويني. ماذا؟ خيمة؟ ولماذا الخيمة؟ انه سامي الجميل ورفاقه. ثم خيمة ثانية، بدأ العدد يزداد. نزل جبران تويني اليهم. سألت نايلة “أين والدي؟” فقيل لها ان الامن الخاص يحاول اللحاق به. نزل الى الخيمة. أحد المجتمعين في الطبقة السادسة لم ترق له الفكرة. سخر منها، وعلق “ما به جبران يشجعهم على الجنون”؟ لم يعلم ذاك السياسي ان جبران كان مجنوناً، كان ثائراً على الدوام. وهذا ما عبر عنه العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله اذ قال “انني حين اقرأ جبران اشعر برغبة في الثورة”.
لم يكن قرار المخيم مدروساً. بدأ الشباب بالتوافد ونصب الخيم. عرض عليهم جبران الطبقة الخامسة غرفة عمليات، أولاً للاجتماعات، ثانياً للقيام بالاتصالات، وثالثاً لقضاء حاجاتهم اليومية. وهكذا كان.
الباب الالكتروني الذي كنا نعتبره صمام أمان لعدم دخول كل من لا يحمل بطاقة ممغنطة ألغيت مفاعيله وصار مشرعاً، والتعليمات للأمن الخاص عند مدخل البناء صدرت بتسهيل دخول كل شباب المخيم. لم تنفع اعتراضات باتريك خوري صاحب شركة الأمن. صارت الابواب والقلوب مشرعة.
مساعدتا جبران تويني في مكتبه، شيرين عبدالله، ويسرا بسترس، نزلتا الى الطبقة الخامسة، لتشاركا في التنظيم، وتوفير الحاجات. إنضمت الى الشباب السيدة نورا جنبلاط، فساعدت في توفير خدمات ضرورية لاستمرار المخيم.
ضاع عدد من المحررين الزملاء في الجريدة، ضجيج متواصل، من الصباح والى آخر الليل. البعض وصف الوضع بالفوضى العارمة. شباب لا نعرفهم، بعضهم يسألنا عن هويتنا. ونحن فرحون لاستقبالهم ومساعدتهم. رفض الوصاية، وصولاً الى التحرير، يحتاج الى تكاتف الجهود. هكذا وجدنا أنفسنا متطوعين في المخيم. نوزع الوقت بين اتمام عملنا الصحافي اليومي، ومشاركة الشباب في لقاءاتهم، والنزول معهم الى المخيم لتغطية نشاطاتهم اليومية وابرازها على صفحات “النهار”.
الصحافيون الزملاء في المؤسسات الاخرى، والوكالات الاجنبية، وجدوا “النهار” ملاذاً لهم، فخصصنا لهم عدداً من المكاتب في الطبقة الخامسة ايضاً، وصار سمير قصير منسقاً للصحافة الاجنبية يدلي بأحاديث ويشرح ويحلل، ويجمع الاعلاميين بالثوار الشباب.
وبسبب اطلالة مبنى “النهار” على ساحة الشهداء، صارت الكاميرات التلفزيونية تقصد المكان لتلقط الصور من علو، وينتقل الاعلاميون ما بين الطبقة الخامسة وسطح المبنى. الاصدقاء ايضاً صاروا يقصدوننا ويطلبون مشاهدة المخيم من فوق. كان مشهداً مختلفاً وكانت الانتفاضة مؤثرة لانها كانت في حجم وطن.
تدخل اليوم الى الطبقة الخامسة. لا حزن كبيراً، فقد تجاوزناه، عندما صممنا على الصمود والمواجهة. في المكان بعض ذكريات وصور، وفيه ايضاً حيوية شبان جدد يعملون في اقسام الجريدة، وخصوصاً في الموقع الالكتروني. هم لا يعلمون ان على مقاعدهم جلس ثوار آمنوا بقضية تحرير الوطن. ورغم كل الخيبات المتلاحقة لدى هؤلاء وغيرهم من شبان لبنان، الا ان التحرر من الوصاية السورية تحقق، بعد تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي ايضاً في العام 2000.
يبقى علينا اليوم أن نثبت ونحفز الشباب الآخرين على متابعة المسيرة لبناء دولة تكون للجميع، ويكون القانون عمادها.