IMLebanon

المعارضة اختارت إنجاح «الرياض 2» لا «حوار سوتشي»

 

أظهر الإعلام الروسي – الإيراني حرصاً خاصّاً على الترويج لخبر إعلان الرئيس الحالي لمجلس الأمن الدولي أن بيان قمة سوتشي الثلاثية سيُنشر كوثيقة رسمية للمجلس بطلب من الدول الثلاث. هذا لا يجعل منه قراراً دولياً ملزماً وإنما مجرّد إشعار للدول الأعضاء بما يرغب فيه الرئيس الروسي بالنسبة إلى سورية، وما وافقه عليه نظيراه الإيراني والتركي. وعلى رغم أن البيان يتضمّن مواقف مبدئية فقد ركّز ذلك الإعلام على «دعوة الحكومة والمعارضة في سورية إلى مؤتمر الحوار الوطني الواسع بمشاركة ممثلين عن جميع مكوّنات المجتمع السوري» الذي يُفترض أن ينعقد يوماً ما في سوتشي، وتريد موسكو أن تدعو إليه نحو ألف شخص متوقّعة أن يصدر عنهم بيان مشترك، معدّ مسبقاً، تستطيع أن تعتبره بمثابة «مصالحة» محقّقة بجهودها وحدها.

في الأثناء كانت دول عدّة، على رأسها السعودية، تجهد تحضيراً لمؤتمر يضم فئات المعارضة كافةً، بما فيها مجموعتا موسكو والقاهرة، بغية تأمين اتفاقها على بيان سياسي موحّد ووفد موحّد إلى مفاوضات جنيف. لذلك وجب الاستفهام عن الحكمة والهدف من «حوار سوتشي»، وكان جواب موسكو أنه فكرة ومبادرة لـ «مساعدة السوريين في إعادة وحدة البلاد وتحقيق التسوية السياسية للأزمة من خلال عملية شاملة وحرّة وعادلة وشفافة يقودها السوريون وينفذونها بأنفسهم» (بحسب بيان قمة الرؤساء). لكن هذا هو أيضاً هدف مفاوضات جنيف استناداً إلى بيان جنيف والقرار 2254 والقرارات ذات الصلة. هنا جاء التوضيح الروسي بأن القرار في شأن «حوار سوتشي» يتّخذ في ضوء مخرجات مؤتمر «الرياض 2».

وإذ أبدت موسكو تمسّكاً بمؤتمرها فقد عنى ذلك أولاً أنها غير راضية عن صيغة توحيد المعارضة كما أنجزت، وثانياً أنها تفتعل ازدواجية الحوارات للمساومة على مضمون الحل السياسي المنشود، مع أنها هي التي ألحّت على أن تعاود المعارضة الاجتماع لضمّ «منصة موسكو»، وهو ما حصل فعلاً، كما أنها نفت بصيغ رسمية وغير رسمية عزمها على جعل «حوار سوتشي» بديلاً من مفاوضات جنيف. غير أن بيان قمة بوتين- روحاني- أردوغان لم يشر إلى المرجعيات الدولية، بل استعار فقط بعضاً من عبارات القرار 2254 ليؤكّد ما نُقل مراراً عن موسكو بأن لديها تفسيرها الخاص لبنود عامة في القرار لا تحتّم، في نظرها، أن يتمّ التفاوض على النحو الذي تتّبعه الأمم المتحدة منذ البدء بجولات جنيف.

مَن سيُدعى إلى «حوار سوتشي»؟ يحدد بيان القمة الثلاثية «ممثلي حكومة الجمهورية العربية السورية والمعارضة، المتمسكين بسيادة الدولة السورية واستقلالها ووحدتها ووحدة أراضيها». ومن الداعي؟ إنها الدول الثلاث التي تتقاسم حالياً، بالاضافة الى الولايات المتحدة، «سيادة الدولة» وتستثمر في عدم «استقلالها» وتتهيّأ لمساومات على «وحدة أراضيها». بل إنهم أولئك الذين يتلاعبون بالألفاظ، من «حل سياسي» إلى «تسوية» إلى «عملية» سياسية، ويتفنّن «خبراؤهم» خصوصاً الروس والإيرانيين في استنباط أساليب التحايل على القرارات الدولية وهي كل ما استطاع الشعب السوري تحصيله بتضحيات هائلة. ثم يقولون إنهم يسعون إلى «عملية شاملة وحرّة وعادلة وشفّافة يقودها السوريون وينفّذونها بأنفسهم»، لكن أي سوريين؟ روسيا وإيران اختارتا «سورييهما» المناسبين للنظام الذي تريدانه أن يقود وينفّذ، وتوشك تركيا أن تنضمّ اليهما، وكأن هذه الدول تغلّب مكابرتها على الحقائق فلا تعرف ولا تعترف بأن لديها نظاماً متهالكاً ورهاناً خاسراً بالضرورة.

في العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) استبق بوتين القمة الثلاثية بلقاء مع بشار الأسد. كانت مناسبة لاحتفال ثنائي بـ «الانتصار على الإرهاب» بعدما بالغت طهران في ادّعاء أبوة هذا الانتصار، لكنها كانت أيضاً فرصة لبوتين كي يُسمِع الأسد مباشرة أن العملية السياسية «يجب أن تبدأ» تأسيساً على احتواء الصراع المسلّح بـ «مناطق خفض التصعيد» وانتهاء «الحرب على الإرهاب» أي على «داعش». وأبدى الأسد موافقته على مشاركة النظام في العملية السياسية، وإن لم يقتنع بأن «الإرهاب» انتهى. لكن الإيرانيين عالجوا احباطه سريعاً، إذ طمأنوه إلى أمرَين: الأول، أن الروس يوشكون أن يحققوا اختراقاً في «الرياض 2» بتغيير تركيبة المعارضة ووفدها التفاوضي، لتصبح متحكّمة بإطروحاتها في مسار جنيف من خلال ممثلي «منصّتَي» القاهرة وموسكو وعدد من «المستقلّين». والثاني، أن بوتين يعطي الأولوية لـ «حوار سوتشي» ويفاوض الأميركيين والأتراك كي يضغطوا على ائتلاف المعارضة وحلفائه من ممثلي الفصائل والمستقلّين للمشاركة فيه، وإذ ينصح الحليف الروسي بالمحافظة «موقّتاً» على مسار جنيف فإنه يعمل على قتله في الوقت المناسب.

جاء بيان القمة الثلاثية ليؤكّد ما قاله الإيرانيون، ولعل الأسد شعر بالظفر والارتياح إزاء تصريح أردوغان باحتمال معاودة التواصل معه، إلا أنه فوجئ بقول بوتين إن العملية السياسية تتطلّب «تنازلات من الجانبين»، فهذه عبارة تنقض نهجه منذ بداية الأزمة، لكن الأرجح أن بوتين كان يقول ما يرغب في إسماعه للأميركيين. وفي أي حال يعرف الأسد أن تغليب الارهاب على الصراع الداخلي انتهى أو يكاد، كذلك الرهان على استحالة/ أو عرقلة «توحيد المعارضة»، أي أن عليه أن يتهيّأ الآن لمقاومة استحقاقات الحل السياسي تأسيساً على أن الحليف الروسي مصرٌّ على «حوار سوتشي» لتكريس مكانة النظام وبقائه في أي حل، وعلى أن هذا الحليف عمل طويلاً مع المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا ونائبه رمزي رمزي لتمييع مسألة «الانتقال السياسي»، وقد نجحا حتى الآن في المهمة، لكن بقي أن تقنعهما موسكو بأن «التفاوض المباشر» بين النظام والمعارضة لا يخدم العملية السياسية.

بل بقي أن ينجح اختراق المعارضة في «الرياض 2». الواقع أن تغييراً حصل في بنية المعارضة، لكنه ليس على النحو الذي توخّته موسكو. فمهما كان «معارضوها» موالين لها أو للنظام فإن دخولهم اللعبة لنسف المعارضة قد يضرّ بها، لكنه يدمّر أي صدقية لهم، ما يعني انكشافهم سريعاً بأنهم يُستخدَمون لتخريب التفاوض لا للتوصّل إلى حلّ. ثم إن نقاشهم داخل الإطار الموسّع للمعارضة يختلف حُكماً عن أي حوار مع «الخبراء» الروس، ولا بدّ أن يستند إلى شيء من المنطق: فالحلّ السياسي يعني مرحلة انتقالية، وهذه تعني بالضرورة أن لا عودة لسورية الى ما كانت عليه، وأن تقبل بالتفاوض «من دون شروط مسبقة» لا يمكن أن يعني طمس الشروط الموجبة لحلّ حقيقي، وأن تقول أو لا تقول بـ «مغادرة الأسد وزمرته ومنظومة القمع والاستبداد مع بدء المرحلة الانتقالية» يتوقّف على ما إذا كانت المعارضة تبحث عن حلٍّ يخرج سورية من محنتها أم أنها تسعى إلى حلٍّ تتواطأ فيه على نفسها وعلى الشعب السوري ومستقبله.

لا تجهل المعارضة بأطيافها كافةً أن القوى الدولية تتكاذب على بعضها بعضاً، وليس في مصلحتها مهما تكاثر انتهازيّوها أن تلعب لعبة تلك القوى التي تتصارع أو تتفق على حساب الدم السوري. كان «منطق المعارضة» هو ما فرض اعادة عبارة «مغادرة الأسد» إلى بيان «الرياض 2» بعدما حُذفت فعلاً من المسودّات الأولى، وقد دفع «الائتلاف» وحلفاؤه ثمنها بحصول «المنصّتَين» على الثلث المعطّل في تركيبة الهيئة العليا للمفاوضات، لكنهما أفشلا لاحقاً مطالبة «جماعة موسكو» بـ «مجلس رئاسي» لإدارة هذه «الهيئة» وزعزعة قيادتها للتفاوض. ولعل العبارة الشهيرة أعيدت لأنها تمنح أيضاً الدول الداعمة للمعارضة بعضاً من المرونة وورقةً لاختبار روسيا: فكلمة السرّ كانت أن نجاح مؤتمر المعارضة يعني المضي في مفاوضات جنيف وتمكين «الداعمين» من العمل، أما فشله فيعني الذهاب إلى «حوار سوتشي»، وفي هذه الحال ستضغط أنقرة على «الائتلاف» وحلفائه كي يشاركوا، وستترك واشنطن بوتين يعمل، كما أبلغته مسبقاً من دون أن تدعم أو تعرقل، لكن لتتفرّج بعدئذ على فشله. ولذلك فإن بوتين يعقد قمماً ويحرّك مبادرات للإنفراد بإدارة الأزمة، لكنه يجد دائماً صعوبة في تهميش الأميركيين أو تجاهلهم، كما في سعيه الدائب إلى إثبات أن ليس ثمة شعب في سورية.