إنّها ثلاثة أشهر حاسمة، في نظر خصوم «حزب الله» وإيران: إما أن تتكرَّس السلطة للغالبية الحالية، وإما أن تتبدَّل أو تنقلب. وفي اعتقادهم، أنّ المعطيات الجديدة باتت تسمح بهامش أوسع من المراهنة. وفي أي حال، بناءً على نتائج الانتخابات النيابية الآتية في أيار، سيحدِّد هؤلاء خياراتهم للسنوات المقبلة.
يراهن المحور الأميركي- الخليجي على أنّ خروج الرئيس سعد الحريري وتياره السياسي من الانتخابات، ومن العملية السياسية في المطلق، سيُحدِث تبدُّلاً حقيقياً في المعادلة القائمة في لبنان، ويحقِّق الهدف الذي تأخَّر منذ 3 تشرين الثاني 2017.
آنذاك، كان الحريري مدعوّاً إلى الخروج من الدور الذي انقادَ إليه، والذي جعله جزءاً من تحالفاتٍ وسلطةٍ يديرها «حزب الله»، ومعه صارت الطائفة السنّية بكاملها في هذا التموضع السياسي. والدليل أنّ عملية «إنقاذ» الحريري من «أزمة الاستقالة» آنذاك تمّت بجهد حثيث من «حزب الله» وحليفه الرئيس ميشال عون.
إذاً، كانت تلك أول محاولة عملية لكسر «الستاتيكو» القائم في لبنان، لكنها فشلت. وعاد الحريري عن «الاستقالة» واعداً بتغيير النهج، لكن ذلك لم يتحقّق. ولاحقاً سُئل عن السبب، فقال إنّ معادلات القوى السائدة في لبنان والراجحة لمصلحة «حزب الله» تفرض نفسها، وأنّ أي رئيس للحكومة لا يمكن إلّا أن يسير في النهج إيّاه.
في ذلك العام، كان دونالد ترامب قد وصل إلى الحكم في البيت الأبيض بنهجه المتشدّد في وجه إيران. وفي الرياض، بدأ يلمع نجم ولي العهد محمد بن سلمان. ولذلك، طُوي ملف الحريري على مضض، بدعم فرنسي. ولكن، عندما حاول الفرنسيون إنعاش منظومة السلطة بمؤتمر «سيدر»، أقفل الأميركيون والخليجيون في وجهها كل أبواب المساعدات، لعلّ ذلك يقود إلى إسقاطها.
انطلقت انتفاضة 17 تشرين 2019، ومعها انكشف الانهيار الكبير. ومن سوء أقدار الحريري أنّه كان أيضاً في السلطة آنذاك، فـ«انفجرت العبوة» في وجهه. لكن الانتفاضة أيضاً فشلت في تغيير «الستاتيكو». وحتى زلزال 4 آب 2020 لم يشكّل حافزاً لاستنهاضها.
اليوم، بـ«إزاحة» الحريري من المعادلة، يجري عملياً تنفيذ الفكرة التي كانت خلفية حدث الاستقالة في العام 2017، بحيث يُرفع نفوذ «حزب الله» عن الطائفة السنّية. وبمعنى أكثر دقَّة، يَفقد «الحزب» تغطيته السنّية. وهذا العمل يتقاطع مع الجهد لإفقاده التغطية المسيحية والدرزية أيضاً. والانتخابات المنتظرة في أيار هي الفرصة الملائمة لتحقيق هذا الهدف.
وثمة حساباتٌ رقمية يجريها خصوم «الحزب» ويراهنون على أنّها يمكن أن تتكفَّل بقلب المعادلة القائمة اليوم، أو على الأقل بجعل الكفّة متوازنة بين طرفي النزاع، بحيث لا يعود المحور الإيراني قادراً على التحكّم بالقرار اللبناني وحده. وهذه الحسابات ترتكز إلى الآتي:
1- في الطائفة السنّية (نوابها 27)، كان التكتل الذي يقوده الحريري يضمّ 19 نائباً، يُضاف إليهم حليفه الرئيس تمام سلام. وثمة رهان على أنّ غالبية الناخبين السنّة في لبنان، من عكار وطرابلس والبقاع الغربي إلى بيروت وإقليم الخروب وصيدا لن يقترعوا لمرشحين موالين لـ«الحزب»، وأنّ المزاج السنّي لن يسمح بذلك. وهذا ما يقود فعلاً إلى تغيير في المعادلة داخل الطائفة، فتصبح غالبية نوابها خارج سيطرة «الحزب».
2- لدى المسيحيين (64 نائباً)، يحظى تكتل الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل بـ22 نائباً، أي نحو 30%، فيما «القوات اللبنانية» تتمثّل بـ14 نائباً. وإذا أُضيف إليهم النواب الذين استقالوا من المجلس (الكتائب ومستقلون)، فيتوازى العدد مع الكتلة العونية، أي 30% أيضاً.
وهذا يعني أنّ هناك نحو 40% من المقاعد المسيحية تتأثّر بالمناخات التي استجدت في السنوات الأربع الأخيرة، وبتلك التي ستسود عشية الانتخابات. ويراهن المعارضون على اجتذاب هذه الفئة، بحيث تسفر عن انقلاب في معادلة التمثيل المسيحي لمصلحة المعارضة والمستقلين.
3- استطراداً، في البيئة الدرزية (8 نواب)، سيقود ابتعاد «المستقبل» إلى مزيد من التلاصق بين النائب وليد جنبلاط و»القوات» والقوى السنّية الحليفة في الانتخابات. وثمة مَن يراهن على ثبات التمثيل الدرزي راجحاً لمصلحة جنبلاط.
4- يراهن خصوم «الحزب» خصوصاً، على أصوات نحو ربع مليون مغترب، على الأرجح أنّهم سيكونون أقرب إلى المعارضة. ومن شأن هؤلاء أن يتركوا بصماتٍ على مجمل العملية الانتخابية لا يمكن تجاوزها، وحاسمة أحياناً.
5- إنّ قوى المجتمع المدني تجد نفسها، واقعياً، في الصفّ المقابل لـ«الحزب»، ولو لم تنجح في التحالف مع المحور الآخر. وعلى الأقل، في البيئات المسيحية والسنّية والدرزية، هناك مجال لفوز العديد من مرشحي المجتمع المدني.
طبعاً، يراهن «الحزب» على أنّ أحداً لن يستطيع خرق خطوط «الثنائي» في الطائفة الشيعية بنوابها الـ27. كما يراهن على إيصال مرشحين سنّة ومسيحيين ودروز موالين له. ولكن، في المحصّلة، قد لا يضمن احتفاظه بالغالبيات في الطوائف الأخرى، وهي التي يعتمد عليها لتكوين الغالبية على مستوى المجلس (72 نائباً تقريباً، ووفقاً للملف المطروح).
بناءً على هذا التصوّر، يقول المعارضون، إنّ احتمال حصول انقلاب أو تغيير في المجلس النيابي المقبل ليس أمراً مستبعداً. ولذلك، هم يسعون إلى الانتخابات بكثير من الحماسة والجدّية.
وهنا يطرح السؤال: إذا وجدت قوى السلطة أنّ هذه المخاطرة واردة، فهل ستسمح بمرورها؟