في تشرين الأول 2023، عندما أشعل «حزب الله» جبهة الجنوب، دعماً لغزة، انتاب خصومه في الداخل شعور متناقض: القلق من عواقب إقحام البلد في حرب إقليمية شرسة، في مقابل الاعتقاد بأنّ هذه الحرب قد تكون فرصة لولادة حل في لبنان، خصوصاً لمسائل السلاح والنفوذ وقرار الحرب والسلم. ولكن، يوماً بعد يوم، يتبّين أنّ هذه الحسابات غير واقعية.
مع إطالة الحرب في غزة والجنوب إلى آجال غير معروفة، تتعمّق الخيبة في أوساط المعارضة. فالقوى الدولية والإقليمية لا تبدو مستعدة للتدخّل الجدّي وفرض الحلول على الطرفين المعنيين بالصراع، إسرائيل وإيران، في آن معاً.
راهنت قوى المعارضة على أنّ مصالح الأميركيين والأوروبيين والعرب ستحتّم عليهم أن يتدخّلوا ويفرضوا الحل السياسي في غزة وجنوب لبنان، ما يؤدي إلى حسم الوضع على الحدود وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة فاعلة لا تكون خاضعة لـ»الحزب» وحلفائه. وتحظى هذه التركيبة السياسية الجديدة بجرعة دعم سياسي واقتصادي تُخرج البلد من وضعية الانهيار.
ولكن، في الواقع، لا إسرائيل تبدو مستعدة لإنهاء الحرب على الجبهتين قبل تحقيق أهدافها، ولا إيران مستعدة لتقديم التنازلات. وأما الولايات المتحدة فتعتمد سياسة «رخوة» ومرتبكة في 3 اتجاهات:
1- تُقدّم لإسرائيل كل دعم عسكري تريده لتحقيق الانتصار في غزة.
2- تُفاوض إيران في الكواليس، وتتجنّب أي صدام معها.
3- تعمل مع السعوديين والمصريين والأردنيين على خط التطبيع مع إسرائيل وإنتاج حلول سياسية.
ما يعني المعارضة في لبنان هو أنّ الأميركيين أنفسهم، الذين هم دعامتها الخارجية الكبرى، لا يهتمون إلّا بالتفاوض مع «حزب الله»، إما مباشرة وإما بالواسطة من خلال الرئيس نبيه بري والحكومة اللبنانية التي تتبنّى تماماً مقاربة «الحزب».
ويظهر الاتجاه الأميركي في طريقة تحرّك عاموس هوكشتاين. فإذا كان مطلب الإسرائيليين هو إنشاء منطقة «آمنة» في الجنوب، عملاً بالقرار 1701 أو سواه، فإنّ أحداً في لبنان لا يمكنه تقديم التزام بذلك إلّا «الحزب». ولذلك، الأجدى محاورته ومقايضته، إذا كان يُراد تجنّب الانزلاق إلى حرب واسعة.
انطباع العجز لدى المعارضة يتنامى، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة تنشغل أكثر فأكثر باستحقاقها الرئاسي الذي تتباطأ خلاله الحركة الديبلوماسية الأميركية، ما يعني إطالة الحروب والأزمات، بما فيها معاناة لبنان. ويبدو «حزب الله» قادراً على التشدّد في هذه الظروف، على الحدود وفي الداخل. ولا يجد مبرراً لتقديم التنازلات، على الرغم أنّه يدفع يومياً أثماناً باهظة بأرواح مقاتليه وكوادره، وبدمار كِلفتُه مئات الملايين من الدولارات في بيئته الجنوبية. وهو يراهن على قبض ثمن تسوية سيتمّ إنجازها في النهاية، وتكون بشقين: الجنوب والداخل.
إذاً، ما الذي يمكن للمعارضة في لبنان أن تفعله أو تنتظره لتعديل كفّة التوازنات؟
يوماً بعد يوم، يتنامى الانطباع لدى أركان المعارضة بأنّ التوازن الذي يبحثون عنه بات بعيداً، وأنّ لعبة المصالح الإقليمية والدولية ربما تقود إلى صفقة ما بين إسرائيل و»الحزب»، برعاية واشنطن، وفق نموذج الترسيم بحراً. فاللاعبون الكبار لهم مصالحهم، ويفضّلون مفاوضة الطرف القوي ويهملون الضعفاء. وهنا يجدر التفكير في مسار التطبيع الذي سلكته العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران وانعكاساته على الواقع في لبنان.
لقد راهنت المعارضة على إعادة خلط الأوراق في الداخل اللبناني من خلال انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، لكنها فشلت أو أُفشلت. ثم اعتقدت أنّ زلزالاً بالحجم الذي شهدته بيروت في 4 آب 2020 سيتكفّل بتفجير نقمة الجماهير على ذوي القرار والنفوذ، لكن ذلك لم يتحقق. ثم راهنت على تغيير سياسي بالانتخابات النيابية، فتحقق هذا التغيير نسبياً في صناديق الاقتراع والمقاعد، لكنه لم يبدّل شيئاً في الواقع. واليوم، تأمل المعارضة في أن تؤدي الحرب إلى تغيير الواقع السياسي. لكن هذا الاحتمال يتضاءل تدريجاً.
ولأنّ «القلّة تولّد النقار»، فإنّ أركان المعارضة يتباعدون بدلاً من أن يتجمعوا. ويتنامى التمايز بين «الصقور» و»الحمائم» و»المستقلين» و»المعتدلين» وقوى المعارضة المسيحية، فيما اختار وليد جنبلاط تموضعاً «وسطياً»، من جديد، مع ميلٍ واضح إلى التقرّب من «الحزب» وحلفائه.
وبهذا، يكون خصوم «حزب الله» على وشك الاقتناع بأن لا فرصة جديدة ستفرزها الحرب. ما يعني أنّ «المعارضة»، بتشكيلاتها وتسمياتها الفضفاضة، وصلت مرة أخرى وربما أخيرة إلى طريق مسدود. وهذا ما سيدفع أركانها جميعاً إلى مراجعة حساباتهم، والبحث عن سبل لإمرار المرحلة بأقل ما يمكن من الأضرار.