IMLebanon

ارتياب المعارضة في دور التيار وأداء الجيش

 

 

لم يكن توقيف وليم نون، شقيق أحد شهداء تفجير المرفأ، حدثاً أمنياً أو قضائياً. كان يمكن أن يحصر بكونه «تصفية حسابات شخصية»، لكنه تحوّل إلى حدث في السياسة حيث علامات الاستفهام كثيرة حول ما واكب التوقيف من نشاط سياسي على خطين متواجهين، فضلاً عن دور الجيش المريب

 

منذ توالي التحذيرات من توترات أمنية متنقلة، تمحورت حول إشكالات على مستوى قوى سياسية أو افتعال حوادث أمنية، قبل أن يثير توقيف وليم نون، شقيق أحد شهداء فوج الإطفاء في انفجار المرفأ، زوبعة سياسية من بكركي الى قوى المعارضة التي كانت قد استكانت في انصرافها الى الرئاسيات. فمن أوقظ هذا الفريق وشدّ عصبه وساهم في توتير الوضع، في وقت تكثر فيه التحذيرات من مغبة استغلال الأرض؟

 

المؤكد أن وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان لم يعطِ تعليمات بتوقيف نون. لكن المؤكد أن المعارضة تجمع، منذ لحظة الإعلان عن قدومه، على أن الزيارة تعكس اطمئنان حزب الله في مرحلة انتخابات رئاسة الجمهورية، والحكومة المستقيلة، ومجيء تحقيق الفريق الأوروبي وإعادة تحريك ملف المرفأ… لتصبح كل العوامل اللبنانية حاضرة في الزيارة الإيرانية، وفي الارتياح الذي يبديه الحزب في تعاطيه مع حلفائه وخصومه على السواء.

لكن بعض المعارضة لا يرى أن للحزب دوراً في كل ما جرى من توقيف نون وما تلاه، ولو أنه كان قادراً على الإمساك بالقضية منذ لحظة تفلّتها. يرى هؤلاء أنّ كل ما جرى في اليومين الأخيرين رسائل سياسية وأمنية – منطلقها تصفية حسابات شخصية مع نون – لاستخدامها في معارك داخلية، في ظل تساؤلات عن المستفيد من إحداث حالات توتر أو ما إذا كان الأمر جسّ نبض، إذا افترضنا أنّ أيّ جهاز أمني أو سياسي لا بد من أن يدرك حجم ردة الفعل على التوقيف، وهل ما جرى كان حكراً على التيار الوطني الحر ووزارة العدل.

 

في كل ما جرى، هناك محاولات لحرف الأنظار عن قضية المرفأ. ونون أحد أبرز الذين لا يريدون أن يقفل هذا الملف إلا عند معرفة الحقيقة. ويكفي كلامه بعد خروجه من التوقيف ليؤكد أنه لا يفتش عن تسييس القضية، بل يريد الوصول الى حقيقة مقتل شقيقه والضحايا الذين سقطوا في الانفجار. أما السياسة فلها مكان آخر.

أولاً، في السياسة، برزت منذ اللحظة الأولى ردة فعل التيار الوطني الحر تأييداً لتوقيف نون. بدا ذلك جليّاً في حملة القاعدة العونية التي استخدمت نعوتاً غير لائقة على مواقع التواصل، وفي تعليقات رسمية علنية ومن قياديين بارزين، مع المطالبة بالإفراج عن المدير العام للجمارك بدري ضاهر ووضعه في موازاة كل ضحايا التفجير، شهداء وجرحى.

لكن، تدريجاً، بدا للمعارضة أن القضية قد لا تكون مجرد رد فعل من القاعدة العونية، بل فعل سياسي مقصود، لا يتعلق بتولي التيار، نيابة عن حزب الله، معركة التدخل الفرنسي في قضية المرفأ. بل إن التيار يوجّه رسائل الى حزب الله بأنه وحده من يقف في وجه القوى المسيحية المعارضة التي تحوّل قضية المرفأ ضدّه، وفي الوقت نفسه يستفيد من تدخل الجيش بطريقة سافرة ليزيد من «حرق» قائد الجيش في وقت ترتفع فيه أسهمه الرئاسية. أما أداء النائب سيمون أبي رميا فكان لحسابات جبيلية محض، ولا سيما بعد دخول راعي أبرشية جبيل المارونية المطران ميشال عون على خط المطالبة بالإفراج عن نون، واستنكار ضرب عناصر من الجيش الكاهن جورج صوما في الوقفة الاحتجاجية على أوتوستراد جبيل.

ثانياً، في موقف الجيش. ردة الفعل الأولى لدى قوى المعارضة كانت توجيه اتهامات إلى جهاز أمن الدولة بالمسؤولية عن توقيف نون وتفتيش منزل عائلته. كان طبيعياً أن يُتّهم الجهاز المحسوب على الرئيس السابق ميشال عون باعتقال نون. لكن، في لحظة ما، صار الجيش في الواجهة، عبر الأسلوب الذي اعتمد في فتح أوتوستراد جبيل. فمنذ تظاهرات 17 تشرين عام 2019، تعرّض قائد الجيش لانتقادات من الرئيس السابق ومن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل على خلفية عدم فتحه الطرق التي قطعها المتظاهرون، وهو كلام لا يزال يردده باسيل حتى اليوم في معرض رفضه ترشيحه للرئاسة. ورغم أن قائد الجيش وعد مطران جبيل بالتحقيق في ما جرى، إلا أن الاتهامات الأولية اعتبرت أن قائد الجيش يقدّم أوراق اعتماد بأنه قادر على التحرك في «المناطق المسيحية» و«الضرب بيد من حديد». إذ إن الجيش لم يكن مضطراً إلى الإسراع في فتح الطرق لأنه غالباً ما يلجأ الى التريث وإفساح المجال للمفاوضات. فهل هي مسؤولية القيادة التي أعطت تعليمات واضحة بفتح الطرق تنفيذاً لقرار بمنع أيّ فتنة أو إقفال الطرق، أم هي مسؤولية الضباط على الأرض في استخدام القساوة المفرطة في تنفيذ أوامر فتح الطريق؟ في الحالتين، حُيّد النظر قليلاً عن أمن الدولة وأصيب الجيش إصابة مباشرة. ويستفيد من هذا الحرق كثر، أولهم التيار الوطني الحر.

 

ثالثاً، المعارضة الحزبية و«التغييريون». لا شك في أن الضغط الذي مارسته قوى المعارضة على الأرض، ومن خلال الاتصالات السياسية، أدى الى الإفراج عن نون. لكن، في المقابل، كبرت حملة الاتهامات باستثمار هذه القوى لتوقيف نون في السياسة، عبر عراضات واستنفار نواب كتائبيين وقواتيين ومستقلين و«تغييريين». لكن في السياسة، مجال الاستثمار دائماً موجود، وهذا لا علاقة له بما قام به نون ولا بتوقيته الذي وضع في خانة الاستغلال، تارة مع زيارة قاضية فرنسية للاطلاع على تحقيقات المرفأ، أو حتى الإيحاء بأن التحرك الذي أدى الى توقيفه هو تحقيقات الوفد الأوروبي، علماً أن التوقيت دائماً له ما له وعليه ما عليه. وأي توقيت آخر كان سيوضع في خانة أخرى، فكيف ومجلس القضاء الأعلى هو الذي حرّك الملف النائم.

أما المعارضة فقد كانت أمام حدثين منفصلين: توقيف نون وأداء الجيش، وفي الحالتين استفادت منهما في توجيه رسائل مضادة بأنها لا تزال قادرة على التحرك ميدانياً وسياسياً.

رابعا، بكركي. عادة يؤخذ على البطريرك بشارة الراعي اندفاعه في قضايا متنوعة، وسط حشود تصل الى بكركي. لكن في هذه القضية، كان موقفه واضحاً منذ اللحظة الأولى، في الاتصالات التي قام بها والكلام الذي عبّر عنه بوضوح أمام رسميين مدنيين وغير مدنيين، وزاد عليها الاعتداء على الكاهن في جبيل. لكن القضية الأبرز بالنسبة إليه هي قضية المرفأ وما يتفرّع عنها. هذه المرة لم يكن الراعي يحتاج إلى حشود لإعلان موقفه، وقد بدا كأنه يخزّن منذ مدة ما يريد قوله في قضايا عدة. لكنه استفاد من اللحظة الآنية ليقول ما لديه دفعة واحدة. الواضح أن الراعي كانت لديه الأسباب الموجبة ليقول ما قاله في أكثر من اتجاه، والمعارضة وجدت في موقفه ما يجعلها تحيد قليلاً لتضع بكركي في الواجهة.