لا تعني كثرة الأسئلة أنّ الجواب عليها بعيد أو مستحيل. ولا يعني الإكثار من اللغط والارتباك أن الصورة في ذاتها غير واضحة، أو أنّ منطق الأمور مكسور ومُحطّم! مثلما لا يعني تراكم «المستجدات» وتسارع وتيرَتها تبخيساً للمعادلة الحسابية الناشفة القائلة بأن البدايات الغلط لا توصل إلى نهايات صحيحة. وأنّ الهيجان الانفعالي المستند إلى الغريزة لا يمكنه أن يأخذ بصاحبه إلى مكان آخر غير ذلك المزنّر بالخسران مهما ادّعى العكس!
وفي الأصل والأساس، والمبتدأ والخبر، والأول والآخر، أن هناك مشروعاً إيرانياً مفتوحاً على مداه يربط الحاضر والمستقبل بأعماق الماضي والتاريخ. ويتوسّل طرقاً وأساليب تبدأ بالذات الإلهية ثم «تنزل» إلى مستوى البشر. ويدبّ في الأرض وعيون أصحابه على السماء. و«رحابته» تامّة لاستيعاب (ثم تبرير) أي أداة ممكنة ومستحيلة، وأي وسيلة عادية أو استثنائية، طبيعية أو مستحدثة، من أجل تثبيت «رؤى» أصحابه. والوصول إلى وضعها على الخرائط، استعادة لأمجاد الماضي، وتصحيحاً للتاريخ الذي عنى بترميد تلك الأمجاد وتدميرها! ثم عنى بتكرار الحكاية المنحوسة عن «الفوز» التكتي بمعارك كثيرة ثم خسارة الحرب الاستراتيجية!
في بداياته وخلاصاته الشموليّة والنصوصيّة، لا يتوقف ذلك المشروع عند «التفاصيل» الاعتراضية القائمة والمحتملة في طريقه، حتى لو كانت من النوع الذي يُعنى بمصائر شعوب برمّتها. وبكيانات نظامية مكتملة. وبثروات لا تأكلها النيران. وبقيم عامة وتفصيلية تُعنى بالحلال والحرام وحرمة النفس البشرية، وكرامتها، وحقّها في العيش والتملّك، والحرية في الاعتقاد والتفكير والتنقّل والاختيار ومراكمة الوعي بضرورة خضوع شكل السلطة الحاكمة ومضمونها لمقتضيات القانون والدستور ومبدأ العدالة، ثم اقتناع أصحابها فوق ذلك بمرحليّتهم وعبورهم!
في «التفاصيل» التي لا يراها الشموليون والخلاصيّون من أهل ذلك المشروع (وإذا رأوها تفاجأوا!) هو أنّ وضع المذهب كبند سياسي يقابله رد فعل من الطراز نفسه وأكثر حدّة! وان احتقار الحدود والسدود النظامية القائمة يقابله احتقار موازٍ وأكثر استنفاراً! وإن اليقظة القومية قد تكون منتجة داخل حدودها، لكنها مدمّرة ما إن تتخطى تلك الحدود. وإن التاريخ الحديث مليء بالعبر والحوادث والواقعات والنكبات الدالّة كلّها على ذلك وأكثر منه! وإنّ إساءة تقدير قوّة الخصم أو العدو (الضحيّة) هي أوّل أبواب الانكسار! وإنّ الغرور من أبواب الضحالة وأبرز علاماتها! وإنّ اعتماد آليات غير سوية ولا شرعية حتى في سياقات النزال والحروب، هو أمرٌ دالّ على ضعف أصحابه، عدا أخذهم إلى «عدالة» عقابية أوسع مدى من حدود جغرافية الحرب وهوية المستهدف! وإنّ محاولة لعب أدوار كبرى بالاستناد إلى بنى صغرى هو بلف لا يمرّ في عوالم التقنية والحداثة والرقابة الراهنة! والأهم من ذلك كله، هو أنّ المباشرة بالعدوان تضاعف بأس المُعتدى عليه وتزيده مناعة روحية ومادية على حدّ سواء.
ما لم يعرفه أصحاب ذلك المشروع الانفعالي الهجومي والعدائي، هو أنّ «التفاصيل» الكثيرة أمامهم ليست من النوع القابل للتفكيك أو الانهيار أو الصهر أو القهر. وإنّ إساءة التقدير والحساب تولّد النتائج الغلط ذاتها. في الصغيرة والكبيرة، في الفيزياء والرياضيات كما في غرف العمليات العسكرية والحروب السيادية.. وإنّ زمن تصدير الثورات انتهى بموت تلك الثورات في أرضها ومهدها!