ما عاد الحزب الإيراني يُحْسنُ إخفاء نياته ومقاصده منذ سنواتٍ طويلة. وقد كان هناك من قال من المراقبين منذ عام 2008 إنّ صوت الأمين العام للحزب هو من ضمن العُدَّة الإيرانية للتخويف وللإنذار، ولذلك فإنّ الإعلان عن الحرب مقصود، بل والمقصود أيضاً التهديدات بالقتل التي صدرت عن بعض أبواق الحزب ومشايعيه في لبنان في الأيام الأخيرة.
إنّ المحيِّر في هذه التهديدات أنها تصطنع أجواء حربٍ على خصومٍ ما عادوا موجودين، وإن كانوا موجودين بأشخاصهم، فإنهم لا يُعالنون الحزبَ وميليشياته العداء. ولذا فالمرجح أنّ تكونَ المعركة كلها معركةَ الصوت العالي، ولا شيء غير. إنما الخَطرُ فيها إرادة الوصول إلى أهداف مُشابهة لتلك الأهداف المتحققة من وراء مقاتلة إسرائيل!
العنوان الحالي في الحرب على عرسال وجرودها أنها معركةٌ هائلةٌ ضد الإرهاب، ولحماية لبنان منه. وكان الحزب قد مضى إلى سوريا أواخر عام 2012 ليقاتل التكفيريين والإرهابيين للحيلولة دون دخولهم إلى لبنان. ولأنّ حركة 14 آذار كان لا يزال فيها حياة وقوة، فقد تمكنت أواخر عام 2011 رغم الانقلاب على حكومة الحريري، من جمع سائر القوى السياسية اللبنانية عند رئيس الجمهورية ميشال سليمان، حيث صدر إعلان النأي بالنفس عن المجريات السورية. إنما بعد شهور تجاوز نصر الله ذلك ومضى للقتال في سوريا بدءاً ببلدة القصير على الحدود، ولماذا؟ لأن التكفيريين الإرهابيين يوشكون أن يزيلوا التشيُّع ومزارات آل البيت من سوريا ولبنان!
وقد انقضى عامٌ أو أكثر على تدخل الميليشيات الإيرانية والمتأيرنة في سوريا قبل أن «يظبط» خطاب الحملة على الإرهاب. وكان الذي سبق لاستعماله النظام السوري الذي اعتبر كل خصومه إرهابيين. أما حسن نصر الله فقد ظلَّ لسنتين (2013 – 2015) يستخدم مصطلح التكفيريين، إشعاراً للأنصار قبل الخصوم أنّ المعركة طائفية. كان يريد حشد الشيعة بالزعم أنّ التفكيريين السنة يريدون إبادتهم وهدم رموزهم الدينية. وقد بلغ من ثورانه التحشيدي القول للكوادر: إن لم تقاتلوهم في سوريا، فستضطرون لقتالهم في النجف وقم! وفي هذه الفترة كان الجدال بلبنان حول تدخله في سوريا ذا شقين؛ الأول أنّ الحزب بسلاحه غير الشرعي ليس من حقه القتال بداخل الحدود، فكيف بما وراء الحدود، لأن معنى ذلك أنه لا سيادة للدولة، وأنّ هذه الميليشيا هي التي تقرر الحرب والسلم. والثاني أنّ الوطنيين اللبنانيين مسلمين ومسيحيين لا يريدون ولا يقبلون قَتْلَ الشعب السوري وتهجيره بأي ذريعة، لأن ذلك حرام وجريمة من الناحية القومية والأخرى الدينية. وكان نصر الله ومعه التيار الوطني الحر يجيب بأنّ المستنكرين للتدخل في سوريا هم حلفاء للتكفيريين والإرهابيين. وتحدانا نصر الله أن نندفع وراءه لنقاتل كتائبه على أرض سوريا ما دمنا حريصين على الدفاع عن التكفيريين!
ومع ظهور «داعش»، وتجدد وتمدد حرب التحالف الدولي على الإرهاب بعد عام 2014، استمات الإيرانيون، واستماتت ميليشياتهم المتجمعة والمتحشدة في سوريا والعراق، في الانضمام إلى تلك الحرب للإفادة من القوة الأميركية والأخرى الروسية، في مكافحة الإرهاب الداعشي من جهة، وفي التنافس فيما بينهما من جهةٍ أخرى. وما واجه الإيرانيون وميليشياتهم «داعش» مباشرةً لا في سوريا ولا في العراق. وفي كل مرةٍ تدنو فيها الجبهات، كان يمكن أن يحصل اشتباك مع «النصرة» وحلفائها، وإن لم يكن ذلك غالباً؛ أما «داعش» فقد كان ينسحب من وجه قوات النظام السوري أو العكس بمعنى أن ينسحب النظام والإيرانيون والمتأيرنون من وجه «داعش» كما حصل في تدمر وفي البادية، وفي دير الزور ونواحي حمص، وهو يحصل الآن في الجرود الشمالية الغربية للبنان مع سوريا!
ما حقيقة المعركة «الهائلة» التي تحصل الآن في جرود عرسال على الحدود الشرقية للبنان مع سوريا؟ المنتشرون هناك من المسلحين السوريين، هم في الأصل من سكان القصير وقراها، والقلمون السوري، وقراه. وقد شردهم النظام مع عائلاتهم، وشردهم الحزب مع عائلاتهم. ولا شك أنه مع الألوف المؤلَّفة من النازحين القسريين من النساء والأطفال والشيوخ، كان هناك مئات من الشبان الذين كانوا مسلحين وتشردوا في الجبال، أو تسللوا بين النازحين إلى المخيمات العشوائية، أو أنهم وهم المشردون في الجبال كانوا يأتون إلى عائلاتهم أو لاستمداد الغذاء والدواء. أما «النصرة» و«داعش» فهي تسميات لاحقة على تشردهم في الجبال، واستناداً إلى التقسيمات القروية والجهوية؛ إذ تظهر بينهم شخصيات قيادية عندها قدرات تنظيمية، وهمها الرئيسي تأمين الغذاء والدواء وبعض السلاح في تلك الشخاريب والجبال العالية والوديان السحيقة. ومن طريق هذه التسميات دخلت عليهم الجهات المموِّلة، وظهر بينهم المفاوضون والمورِّدون والمصدِّرون والخاطفون والمخطوفون. بل وقد تبين نتيجة القتال الأخير مع الحزب أنّ عندهم في تلك الشواهق والسواحق التي لا يسكنها الإنسان ولا الحيوان مئات من العائلات التي عمل الصليب الأحمر على إجلائها إلى عرسال، بينما كان الهدف المعلن للحزب إجلاءهم عنها! وقد قال كاتب شيعي من المناهضين للحزب: إنّ الأولى بالحزب كان لا أن يرسل لقتال هؤلاء البائسين مقاتلي نخبته، بل مهرِّب المخدِّرات الشيعي الأبرز في المنطقة واسمه نوح زعيتر!
بدأت هذه الحرب إعداداً للنصر الإلهي الجديد قبل ثلاثة أشهر عندما تصاعدت حملات جبران باسيل على اللاجئين من جهة، وحملات نصر الله على إرهابيي عرسال والجرود من جهةٍ ثانية. ورغم أن نصر الله أعلن عن انسحابه من الجرود وترْكها للجيش؛ فإنه وفي خطاباتٍ متتالية كان يطلب من المسلحين وقد خسروا المعركة أن ينسحبوا، ويطلب في الوقت نفسه من الجيش اللبناني أن يقاتلهم أو أنه سيقوم بذلك بنفسه. ولأنّ الجيش تردد بعد سوء تصرفه بعرسال، وغضب السنة، والأميركيين، فقد اكتفى بتطويق البلدة والمخيمات والحيلولة دون نزول المسلحين إذا تضايقوا إليها؛ فاندفعت ميليشيات نصر الله لتحقيق النصر المؤزر على أولئك البائسين المشردين تحت اسم الإرهاب. وبالفعل وخلال ثلاثة أيام لا أكثر انتهى كل شيء مع «النصرة»، وهي هناك اسم دون مسمى. فقسم تحت اسم «سرايا أهل الشام» انقسم واستسلم، وقسم انضمّ إلى «داعش»، أما مجموعة التلّي فقد تقبل أخيراً الذهاب إلى إدلب. الملف الآخر المجهول هو للمسمى «داعش» على الجانب الشمالي الغربي لتلك الجرود. وإذا راعينا السوابق التي تحدثنا عنها، فسينسحب «داعش» إلى شمال سوريا دون قتال، إن لم يكن قد فعل!
لماذا كانت المعركة الوهمية إذن؟ لثلاثة أسباب: إيجاد خط آمِن شيعي لبناني فيما بين القلمون وحمص واللاذقية بالمشاركة مع النظام السوري (سوريا المفيدة) – السيطرة على حدود لبنان الشرقية بغطاء الجيش اللبناني أو دون غطاء – والصراع لكي يحصل في لبنان ما حصل بالعراق من شرعنةٍ لجيشين: الجيش الرسمي، وميليشيا حزب الله، التي تناظر الحشد الشعبي بالعراق!
إنها عودةٌ للصراع على لبنان والتحكم فيه داخلياً وخارجياً. أما التهديدات بالقتل، وبعظمة الانتصار على أبو مالك التلي من جبهةٍ أخرى، فالمقصود بها إخضاع المعارضة الخفية والتي يمكن أن تظهر في أي لحظة. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.