منذ أن عاد الرئيس الفرنسي شارل ديغول لتسلم الموقع القيادي الأسمى في بلاده، موقع رئاسة الجمهورية، انقلبت أحوال العلاقات العربية الفرنسية رأساً على عقب نتيجة لسياسته التي قلبت السياسة الفرنسية هي الأخرى رأساً على عقب، حيث كان تحقيق استقلال الجزائر عن فرنسا أولى إنجازاته الكبرى، إضافة إلى انتهاجه سياسة أكثر اعتدالا وعدالة بالنسبة للنزاع العربي الإسرائيلي، مخالفة تماما للنهج القديم الذي كان أكثر التصاقا بإسرائيل وسياساتها العدوانية في فلسطين وتجاه العالم العربي. وباستثناء بعض الانتكاسات التي طاولت العلاقات العربية – الفرنسية، فإنها قد عرفت عموما، تحسنا ملحوظا أدّى إلى اعتبار فرنسا صديقة للعرب وقضاياهم، ومستفيدة اقتصاديا من علاقات تجارية مميّزة معهم، خاصة على صعيد تجارة السلاح.
وفي لبنان… لا ينكر أحد مدى العلاقة الوثيقة التي تربط لبنان بفرنسا وبصورة خاصة من خلال دورها في تحقيق نشأة لبنان واستقلاله، ومن خلال العلاقات الحضارية والثقافية الوثيقة التي ربطت ما بينهما، من دون أن ننسى ما حققته فرنسا على الصعيد التعليمي والطبي والمدني من إنجازات تمثلت خاصة بالجامعات والمدارس والمستشفيات الطبية العديدة التي بقيت ضمن الآثار الحضارية التي تركتها في لبنان بعد نهاية الانتداب، حيث ما زالت عاملة وفاعلة ومنتشرة حتى الآن، الأمر الذي عوّض عن الآثار والأعمال السلبية التي نتجت عن مرحلة الانتداب الفرنسي والتي كانت قد أدت إلى تحفظات بعض اللبنانيين على نهجها، ومعاداتهم له.
لقد تأكدت العلاقات الجيدة بعد الاستقلال وعلى مدى سنواته ومراحله من خلال أحداث وتعاملات ومواقف كان لها أثرها الجيد في تعميق أواصر التقارب وتحقيق ممنهج للمصالح المشتركة وتجذيرها على المدى اللبناني كلّه، ويشهد على ذلك تلك الزيارات المتعددة التي قام بها مسؤولون فرنسيون، لعل أهمها وأوسعها مدى وأثرا تلك الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي للبنان خلال الاسبوع الفائت والتي أكدت مدى اتساعها وأهميتها، تلك اللقاءات التي أجراها مع كبار المسؤولين اللبنانيين وفي طليعتهم الرئيس بري بصفته رئيس مجلس النواب اللبناني الممثل الشامل للشعب اللبناني بأسره، والرئيس سلام، بصفته رئيس مجلس الوزراء القائمقام رئيس الجمهورية المختفي والمحجوب عن الانتخاب في هذه الظروف العصيبة. لقد أكد الرئيس هولاند بما فيه الكفاية مدى أصالة وعراقة العلاقات اللبنانية – الفرنسية وأكدتها معه تلك اللقاءات التي أجراها مع القيادات الروحية والسياسية والعديد من الفعاليات المدنية، ولعل أكثر ما أراد اللبنانيون معرفته من أهداف زيارته موقفه وموقع بلاده من معضلة رئاسة الجمهورية المتأخرة عن موعدها الانتخابي، بما يناهز السنتين، والتي أحال الرئيس هولاند المسؤولية عنها إلى اللبنانيين أنفسهم، مساويا في تلك الإحالة ما بين كل الرؤساء وكل الفاعلين الذين طلب منهم العمل على إجراء الانتخابات الرئاسية وإعادة رأس الرئيس إلى أي رئيس ستمكنه الظروف من الجلوس على كرسي الرئاسة، معتبراً ذلك شأناً لبنانياً تماماً كما اعتبره كذلك عدد كبيرة من الرؤساء الذين صرّحوا بهذا الاتجاه سواء في داخل لبنان أم في خارجه. وبالتالي يتبين للبنانيين من خلال هذه الزيارة وبشهادة الجميع بمن فيهم الرئيس هولاند، أنه ما حك جلدك مثل ظفرك، وأن كل الوساطات والنداءات مختلفة الأوزان والأحجام، ما هي إلاّ صرخات استغاثة وأصوات تعلو في الهواء، لا أثر لها، ولا طعم ولا رائحة طالما لم تنضج ظروفها، وفي طليعة هذه الظروف وأهمّها، عودة اللبنانيين جميعا إلى وعيهم وإلى استخلاص السلامة والإنقاذ والخلاص لبلادهم، والضغط الفاعل والشامل على بعض نوابهم المُحْجمين عن ممارسة الحق الديمقراطي الذي منحهم إياه الدستور، ولكنهم كفروا بهذه النعمة وأنكروها، ويكادون أن ينكروا معها الوطن بكل أركانه وعطاءاته ومزاياه.
لقد أثبتت زيارة الرئيس هولاند أنها زيارة ممتازة على الصعيد المعنوي، وهو مشكور عليها مرّحبين به وبكلماته المعبّرة والمؤثرة، كما نشكر الجميع على كل النصائح العشوائية التي أعطيت لنا بهذا الصدد، كما نثمّن لفرنسا الدعم المادي الذي خصصته لدعم لبنان في إطار أزماته الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها لأسباب عديدة وفي طليعتها حجم النزوح السوري إلى لبنان وأعبائه الضخمة التي تحتاج إلى أضعاف أضعاف مجمل المخصصات الفرنسية والأوروبية، شاكرين له زيارته التفقدية لمنطقة البقاع التي يبدو أنها كانت الغاية الأساسية التي توخاها من زيارته، حيث اطلع على مدى وحجم النزوح، علّ ذلك يحث على بذل جهود مطلوبة من قبله ومن سواه على الصعيد الدولي وفي منظمة الأمم المتحدة، مدركين بدورنا حجم التحسّبات والتخوفات الفرنسية من حالات النزوح المنتشرة عشوائيا في أرجاء المنطقة، التي أخذت جحافلها تجتاح الحدود والسدود كلها طلبا للهجرة إلى أوروبا، مؤكدين أن الحاجة لمعالجة الوضع السوري، تشتد وتتعقد أوضاعها إلى أقصى الحدود، وهي تحتاج بشكل ملح إلى إيجاد حلّ جذري لها انطلاقا من هذا النزوح الذي باتت أوروبا تخشى من حجمه وأعبائه، أولاً من أخطاره على الأمن الأوروبي، وثانياً نتيجة لاحتمال تغلغل الإرهابيين الداعشيين في صفوفه وضمن جحافله، من هنا نرى، مع الفرنسيين ربما، النتيجة المأساوية وأحجام التقاعس الدولي عن معالجة الوضع السوري، خاصة، ذلك التقاعس الأميركي الذي جرّ بين أذياله المتراخية والمستقيلة من مسؤولياتها الدولية والإنسانية، من دون أن ننسى أن فرنسا قد حاولت ما استطاعت التصدي لنهج أوباما المتخاذل والذي أوكل مهاماً كان يمكن أن تكون له ومن شأنه، إلى طامع آخر بسوريا وموقعها الاستراتيجي في صلب الشرق الأوسط ألا وهو الروسي الذي يبدو أنه أقبل بجيوشه إلى هذه المنطقة لدعم بشار الأسد بأي ثمن مادي وبشري، توطئة لترسيخ أقدامه في هذه المنطقة بطريقة شبه استعمارية بعدما ولّى زمن الاستعمار منذ أمد بعيد.
الرئيس هولاند: أمّا وقد اطلعتم تفصيليا على الأحوال اللبنانية من خلال زيارتكم لهذا البلد المنكوب ومن خلال زيارات العديد من الزعماء والمسؤولين اللبنانيين لكم حيث أجروا مباحثات مطولة معكم حول الشؤون والشجون اللبنانية كافة، ومع إدراكنا الموضوعي والمبرّر أن حجم التأثير الفرنسي هو بجزء منه، محدود ومختزل لأسباب فرنسية داخلية، وهو بالجزء الأكبر منه، قد سلّم بالنتيجة علم القيادة وإمرتها إلى الولايات المتحدة التي تقبع حاليا في مستنقع التخاذل وآراء ونظريات أوباما المتقوقعة على ذاتها والمضرّة بمصالح الولايات المتحدة الأميركية نفسها. ومع قناعتنا بأنكم في مطلق الأحوال، تبذلون ما تستطيعونه من محاولات وجهود، بالرغم من أن الاستفتاءات التي تجري في بلادكم تحمل إليكم كثيرا من النتائج المزعجة، فإننا نرجو ألاّ يصيبكم اليأس مثلنا، وقدر ما نتمسك بتلك العلاقات المتميزة جدا ما بين فرنسا ولبنان، نأمل منكم جهودا فرنسية ودولية، على قدر استطاعتكم، تُسْهِم في إعادة الأمور إلى نصابها المنطقي والواقعي والعادل.