رسم الإسرائيليون تصوّراً لما سيكون عليه قطاع غزة في نهاية حرب التدمير والتهجير التي أطلقوها. وبناء على هذه الصورة، سيفاوضون على مستقبل القطاع والقضية الفلسطينية برمتها.
لذلك، من العبث الرهان على وقف الحرب حالياً. ومن الواضح أن بنيامين نتنياهو ليس متحمساً لإطلاق الأسرى الأسرائيليين حالياً. فهو يعرف أن هؤلاء سيكونون في أمان، وأن «حماس» ستحافظ عليهم ليكونوا مادة تبادل. وعاجلاً أو آجلاً، سيكون هؤلاء جزءاً من صفقات تبادل، على غرار تلك التي أُبرمت أخيراً. وهو يفضل إبقاءهم مادة مساومة لتبريد حرارة الحرب جزئياً، وإبقائها في وضعية استنزاف طويل المدى، ما يتيح الوقت لإطلاق المفاوضات بالشروط التي يريدها.
أي، في نهاية الفصل الحالي من حرب التدمير والتهجير في غزة، سيكون جزء كبير من القطاع، بشماله وجنوبه، عبارة عن أرض محروقة بلا سكان. وسيكون إعماره وتمكين سكانه من العودة إلى منازلهم هو المسألة الأساسية. وعلى هذه النقطة الحساسة إنسانياً وسياسياً سيفاوض نتنياهو. وللتذكير، النازحون من سوريا لم يعودوا حتى اليوم إليها، بل تنطلق موجات نزوح جديدة، فيما مشاريع إعادة الإعمار مؤجلة.
في الشرق الأوسط المعقّد، غالباً ما يصبح الموقّت دائماً. وإذا ما رفع الإسرائيليون وتيرة حربهم على قطاع غزة الصغير والكثيف السكان، ووسّعوا دوائر التدمير فيه، فلن يجد الغزيّون إلا معبر رفح مخرجاً لهم من الجحيم. وسيكون المصريون أمام خيارات كلها صعبة، سواء رضخوا للضغوط وفتحوا المعبر أمام الغزيين أم أصروا على إبقائه مقفلاً.
على الأرجح، في هذه اللحظات التي سيشعر فيها الإسرائيليون بأنهم حققوا الهدف الميداني في غزة، سيطرحون على بساط البحث، لا مصير القطاع فحسب، بل مصير القضية الفلسطينية برمتها، أي وضع الضفة الغربية والقدس أيضاً. وثمة مَن يعتقد أن إسرائيل لن تضيع فرصة حل المشكلتين اللتين تواجههما في آن واحد، القطاع والضفة الغربية. ولذلك، هي قد تلجأ إلى تسخين الضفة أيضاً، تحضيراً لإدخالهما معاً في عملية التفاوض التي يجري التحضير لها ببطء.
يتوقع بعض المحللين أن تكون الجبهة الفلسطينية والعربية التي ستفاوض إسرائيل ضعيفة ومشرذمة. فبعد سكوت المدافع في غزة، ستقع إشكالية على مستوى التمثيل الفلسطيني: لمن الأولوية لـ»فتح» أم لـ»حماس»؟
وصحيح أن «حماس» ستكون منهكة تماماً مع انتهاء الحرب في غزة، إلا أنها لن تستسلم، وسترفع راية الزعامة الفلسطينية، معلنة أنها هي الشرعية التي تقاتل إسرائيل اليوم، لا «فتح». وهذا الخلاف، على المستوى الفلسطيني، سيترافق مع خلافات بين القوى العربية والإقليمية الداعمة لكل من الطرفين، ما يجعل إسرائيل في موقع أقوى على طاولة المفاوضات.
التصوّر المحتمل لهذه المفاوضات هو أن تكون متعددة الأطراف، فتضم مصر والأردن وقوى دولية وعربية معنية بالتمويل، وفي طليعتها المملكة العربية السعودية التي سيحتاج المتفاوضون أيضاً إلى رمزيتها الوازنة عربياً وإسلامياً.
لكن الأهم هو أن المفاوضات على الخط الفلسطيني ستحرّك مسارات أخرى، وتحديداً، على جبهة إسرائيل الشمالية، أي الجنوب اللبناني والجولان السوري. وقد بدأ الجميع يستعد لذلك.
السوريون يحرصون على تحييد أنفسهم عما يجري في غزة، وهذا يعني أنهم فكوا ارتباطهم أيضاً بمسارات التفاوض المحتملة. وقد حصلوا على تغطية موسكو لتحقيق هذا الأمر. أما في لبنان، فيرفع «حزب الله» مستوى المواجهة للقرار 1701، لئلا يقيّد حركته في جنوب الليطاني، وقد دخلت «حماس» على الخط بإطلاق «طلائع الأقصى» لتقول: «نحن هنا أيضاً». ودخولها مستحيل ما لم تحصل على ضوء أخضر من «الحزب».
في المقابل، يصعّد الإسرائيليون والغربيون بالدعوة، لا إلى تنفيذ القرار1701، بل إلى زيادة فاعليته وتوسيع نطاق عمله. وهذا النزاع سيكون عنوان المعركة السياسية المرتقبة، بعد انتهاء الحرب في غزة.
وفي تقدير البعض أنّ المسار اللبناني المُجمّد منذ انفجار الحرب في غزة، سيتحرك سريعاً بعد انتهائها، لأن الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين كان قد مهّد لذلك بوساطة ترمي إلى ترسيم الحدود البرية. ولكن، للتذكير، إنّ حسم نقاط الحدود بين لبنان وإسرائيل عند مزارع شبعا يستلزم أولاً حسمها بين لبنان وسوريا.
فحتى اليوم، دمشق لا تُجاري لبنان بإعلانه أن المزارع جزء من أرضه، على رغم أن «حزب الله» يعتبر هذا الأمر هو المبرّر الواقعي للاحتفاظ بسلاحه. وفتح النقاش حول الحدود مع سوريا سيفتح ملفاً شائكاً حول شريط يبدأ بالمزارع ويصل إلى الهرمل وعكار شمالاً، ثم يدخل في البحر، حيث يحتاج لبنان إلى مفاوضات كتلك التي جرت مع الإسرائيليين في الناقورة، ليتمكن من استثمار موارده من الغاز شمالاً.
إذاً، حرب الاستنزاف في غزة (والتوتر المحتمل الضفة أيضاً)، وفي لبنان، ستقود الجميع إلى مفاوضات شائكة ومتداخلة لا أحد يضمن أنه سيخرج منها منتصراً أو رابحاً. ولذلك، الكل يدرس اليوم حسابات التفاوض بعد الحرب. ويقاتل الإسرائيليون بشراسة على الأرض في غزة، وقد يفعلون ذلك جنونياً في لبنان أيضاً، كي يحظوا بالموقع الذي يسمح لهم بإملاء الشروط على الطاولة.