ليس مستبعداً أن يتمّ التوصل قريباً إلى هدنة في غزة، قد يكون مداها شهراً أو أكثر. فالطرفان المنخرطان في الحرب يحتاجان إليها. ولكن، لمصلحة مَن ستكون هذه الهدنة؟
في أواخر تشرين الثاني الفائت، نجحت عملية تبادل الأسرى والرهائن بين إسرائيل و»حماس» في غزة. وأطلقت الحركة نحو 100 من الذين احتجزتهم خلال عملية «طوفان الأقصى»، معظمهم من النساء والقاصرين وحَمَلة الجنسيات الأميركية والأوروبية. وإذا كان صحيحاً ما تردّد عن مقتل نحو 25 محتجزاً في أنفاق غزة، في ظروف مختلفة، فإنّ عدد المحتجزين الباقين بين أيدي الحركة يُفترض أن يتجاوز الـ100 بقليل.
وهؤلاء، إضافة إلى جثامين الإسرائيليين القتلى، باتوا يشكّلون عبئاً ثقيلاً جداً على بنيامين نتنياهو. فالتظاهرات الداعية إلى إطلاقهم تتنامى تصاعدياً، وفي شكل سريع، وتُعمّق صورته كرئيس للوزراء مربَك وعاجز عن حسم الملفات الخطرة، في موازاة كونه ملاحقاً بدعاوى الفساد والخيانة العظمى.
لذلك، يريد نتنياهو أن يتخلّص من عبء الرهائن في أسرع ما يمكن، ليرتاح في قتاله على الجبهات السياسية، فيدافع عن نفسه وموقعه. وقد بات اليوم يؤيّد وقفاً للنار محدوداً بشهر أو اثنين في غزة، بعدما رفض كل قرار بهذا المعنى في أوقات سابقة. وفي 8 كانون الأول الفائت، أسقط قراراً بوقف النار كان يفترض صدوره عن مجلس الأمن، بدعم من «الفيتو» الأميركي.
حينذاك، كان نتنياهو يعتقد أنّ الفرصة ما زالت متاحة أمام جيشه لكسر «حماس» وتدمير غزة وتهجير أهلها. وقد حصل حينذاك على غطاء أميركي للقضاء على «حماس» في مدى لا يتجاوز نهاية العام 2023، لأنّ إدارة الرئيس جو بايدن لا يمكنها تحمّل الشلال الهائل من الدماء في غزة، بلا حدود، وبلا أفق لمخرج سياسي. والموقف الأميركي يستثير نتنياهو ورفاقه في اليمين الإسرائيلي. فهؤلاء يريدون دعماً مفتوحاً وغير مشروط.
طبعاً، المهمّة الأساسية التي عمل لها نتنياهو فشلت جزئياً، لأنّ الحرب لم تُحسم بسرعة. ومن الواضح أنّ الرجل يعتمد اليوم خطة بديلة تقوم على المراوحة العسكرية والمراوغة السياسية وكسب الوقت، إلى أن تطرأ معطيات جديدة ميدانية أو سياسية تسمح له بتحقيق هدفين:
1- تصفية القضية الفلسطينية بالقضاء على «شخصية» غزة وربما الضفة الغربية أيضاً.
2- التفلّت من العقبات السياسية التي يواجهها داخلياً، وتثبيت موقع قوي له
كأحد الذين تركوا بصماتهم في مستقبل إسرائيل.
ولعلّ أبرز العوامل الخارجية التي يمكن أن تعدّل «الستاتيكو» القائم حالياً عودة حليفه دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وبات مؤكّداً أنّ نتنياهو يراهن في النهاية على هذه العودة ليستعيد التغطية الأميركية المطلقة لخطته، كما كانت دائماً خلال ولاية ترامب السابقة.
لكن المدة الفاصلة عن تحقيق التغيير المرتقب في قيادة الولايات المتحدة تناهز العام الكامل، وهي ليست بقصيرة. ولذلك، على نتنياهو أن يبتدع الطرق لإمرارها بأقل ما يمكن من خسائر. وهذا يعني خصوصاً إلهاء «حماس» والقوى الداخلية والخارجية بمبادرات ليس ضرورياً أن توصل إلى نتيجة.
ويتوقع الخبراء أن يعمد نتنياهو خلال الهدنة المتوقع إعلانها قريباً إلى حلحلة جزء كبير من أزمة الرهائن، وبعد ذلك، يباشر مرتاحاً عملية إضاعة الوقت بلا حدود طوال العام الجاري، بمفاوضات واتفاقات هدنة.
إذاً، خلافاً لما كان الأمر في الشهرين الأولين من حرب غزة، الهدنة الموعودة حالياً تصبّ في مصلحة نتنياهو في الدرجة الأولى. ولذلك، هي تُقابل بتحفظات وشروط من جانب «حماس».
فالحركة تدرك جيداً أنّ الهدنة، كما يطرحها نتنياهو، أي من دون إقرار الجانب الإسرائيلي بأي التزام سياسي أو السماح بعودة النازحين والبحث في تسوية سياسية شاملة، ليست في الواقع سوى فخ يُنصب للغزيين، وللفلسطينيين عموماً.
وهذا يقتضي أن يرفض الجانب الفلسطيني طروحات الهدنة وإطلاق الرهائن بالصيغة التي يطرحها نتنياهو.
لكن الحركة لا تملك في الواقع تَرَف الرفض. فهي تقاتل في ظروف صعبة جداً، حيث لم يبق من أهل غزة في منازلهم أكثر من 40%، وحيث لا أفق لتسوية سياسية تسمح بإعادة إعمار ما هدّمته الحرب. كما أنّ قدرات «حماس» العسكرية تحتاج إلى التدعيم بعد نحو 4 أشهر من الحرب الشرسة. كما تحتاج الحركة إلى التقاط الأنفاس عسكرياً ودخول بعض المؤن والأدوية التي يحتاج إليها الناس الذين أوشكوا على حال تشبه المجاعة، ويعانون خللاً خطيراً في مجال الطبابة والخدمات الإنسانية.
ومن الواضح أنّ الهدنة المرتقبة مفروضة على الطرفين المعنيين. فإسرائيل تريدها لكسب الوقت، و»حماس» كذلك، ولكن من زاوية أخرى. والمثير أنّ الطرفين لا يعولان عليها لبلوغ السلام وإبرام التسوية السياسية.
ولذلك، لا قيمة سياسية لاتفاقات الهدنة «المدروسة» لخدمة نتنياهو، والتي تشكّل فخاً لـ»حماس» والفلسطينيين. ولا نهاية للحرب في غزة حتى إشعار آخر.