IMLebanon

نتنياهو يُبطئ اللعبة: الحرب طويلة

 

 

أثار بنيامين نتنياهو تساؤلات متناقضة بإعلانه انسحاباً واسعاً لقواته العسكرية من جنوب غزة. ولكن، في أي حال، الترجمة الفورية لهذا الانسحاب هي أن لا عملية عسكرية وشيكة في رفح، وأن مسار الحرب في القطاع سيتخذ وتيرة أكثر تباطؤاً.

يُجمع المتابعون على أنّ سحب إسرائيل لغالبية قواتها المقاتلة من جنوب غزة لا يؤشر إلى بداية البحث عن مخرج سياسي هناك. فالخط الوحيد المفتوح حول القطاع هو المفاوضات المتقطعة الجارية في القاهرة، على مستوى قادة أجهزة الأمن، بمشاركة أميركية مباشرة، والتي لم يرشح عنها أي جو إيجابي، في ظلّ توتر سياسي بين واشنطن وتل أبيب.

لكن هذا لا ينفي احتمال أن يقوم نتنياهو بمناورة سياسية تهدف إلى تنفيس الضغط الدولي المتزايد عليه. فهو قد يحاول الإيحاء لإدارة الرئيس جو بايدن والمجتمع الدولي بأنّه في صدد الاستجابة للنداءات بتحسين الوضع الإنساني في غزة، والبحث عن مخارج سياسية.

 

وهناك أيضاً من يربط انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب القطاع بمناخ التوتر السائد مع إيران، إذ إنّ نتنياهو يعيد تموضع الجيش في مناطق أكثر سخونة على الحدود الشمالية، على خلفية الردّ الإيراني المحتمل على الضربة الموجعة التي سدّدتها إسرائيل لقادة الحرس الثوري في دمشق. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى تزامن الانسحاب من غزة مع إعلان الجيش رفع حال التأهّب على الحدود الشمالية، والحديث عن الانتقال بهذه الجبهة من وضعية الدفاع إلى الهجوم.

 

ولكن، على رغم من أجواء التصعيد، ليست هناك إشارات إلى انفجار داهمٍ، لا في جنوب لبنان ولا على الحدود الإسرائيلية مع سوريا. بل إنّ بعض المحللين يستبعد حصول مواجهة كبرى بين إسرائيل وإيران في المدى المنظور، ويعتقدون أنّ حسابات إيران في الردّ على الضربات الإسرائيلية، وآخرها في دمشق، ستدفعها إلى المزيد من «الصبر الاستراتيجي».

 

فإيران لن تردّ بنفسها على إسرائيل، لأنّ الأمر يفتح الأبواب لمغامرات إقليمية خطرة. كما أنّها لن تردّ من خلال «حزب الله» أو الحلفاء في العراق أو اليمن لأنّها حريصة على عدم إغراقهم في أوضاع صعبة. وطبعاً، الردّ مستبعد عبر دمشق التي تفضّل سياسة «النأي بالنفس».

 

إذاً، وفيما لا يُتوقع انفجار كبير وشيك على حدود إسرائيل الشمالية، ينظر بعض المراقبين إلى عملية الانسحاب الواسعة من جنوب غزة في سياق تكتيك سياسي وعسكري ينفّذه نتنياهو، ضمن المخطط الذي رسمه العقل اليميني والعسكري لمستقبل القطاع وسائر المناطق الفلسطينية، أي الضفة الغربية والقدس.

 

ففي الدرجة الأولى، يحتاج الجيش إلى استراحة قصيرة يتمكن خلالها من التقاط الأنفاس، بعد 6 أشهر من القتال العنيف المتواصل. ولكن أيضاً، على الأرجح، عمد نتنياهو إلى إحداث بعض التعديلات على المخطط الأساسي الرامي إلى تدمير غزة وتهجير ما أمكن من سكانها، مستخدماً وسائل القتل والجوع والمرض. وهذه التعديلات فرضتها الضغوط الدولية ورفض الدول العربية، ولا سيما منها مصر، الاستجابة لمشروع التهجير عبر بوابات رفح إلى سيناء.

 

وعلى الأرجح، أصحاب هذا المخطط في إسرائيل كانوا يتوقعون المعاندة المصرية. ولذلك، ابطأ نتنياهو اللعبة في غزة حتى انتهاء ولاية بايدن مطلع السنة المقبلة وعودة دونالد ترامب المرجحة إلى البيت الأبيض. فمعه تعود فرصة الانسجام الأميركي ـ الإسرائيلي، الذي ساد خلال ولاية ترامب السابقة.

 

وحتى ذلك الحين، أي على مدى الأشهر التسعة المقبلة، لا بدّ من ملء الوقت في غزة، وعلى أبواب رفح، بوضعية متأرجحة بين المعارك المتقطعة والمفاوضات المتعثرة واتفاقات تبادل الأسرى ووقف النار التي لا يُكتب لها الاستمرار، ما يتيح استهلاك الوقت الفاصل عن الاستحقاقات بالحدّ الأدنى من الخسائر الإسرائيلية. وأظهرت تطورات الأشهر الستة الماضية من الحرب أنّ هذه التجربة مُجدية. وقد سمحت لإسرائيل بالمماطلة والمضي في عمليات التدمير والضغط على السكان، بالحدّ الأدنى من أصوات الاعتراض الدولية.

 

فاللعبة التي اختارها نتنياهو وأركان قيادته هي إبقاء غزة على النار لأشهر بل سنوات، يتمّ خلالها قضم الأرض ببطء وإطالة معاناة الأهالي المتروكين ضحية الجوع والمرض، في بقعة هي الأكثر كثافة سكانياً في العالم. وبعد أن يصاب هؤلاء بالإنهاك، يصبحون مستعدين لالتقاط أي «قشة» للنجاة، والاندفاع شيئاً فشيئاً إلى خارج القطاع، عبر البوابات نحو مصر أو في البحر.

 

وفي منطق أصحاب خطة التهجير أن لا شيء مستعجلاً هناك، وأن لا أهمية كبيرة لعامل الوقت ما دام المسار يتقدّم نحو الهدف من دون عوائق حقيقية. فمنطق الابتلاع الإسرائيلي التدريجي، الطويل الأمد، خصوصاً منذ مؤتمر أوسلو، أثبت نجاعته في تذويب القضية الفلسطينية إلى الحدود التي وصلت إليها اليوم، وما يزال.