بعد خمسين سنة على «صدمة» حرب ٦ تشرين ١٩٧٣، واجتياح الجيش المصري قناة السويس، وإقتحام خط بارليف الشهير في مناعته، تُوجِّه حركة «حماس» صدمة جديدة، وغير مسبوقة، للإسرائيليين، بشن هجوم «طوفان الأقصى» على مستوطنات غلاف غزة، مقتحمة كل الحواجز وخطوط الدفاع الصهيونية، وموقعة الخسائر الفادحة في صفوف العدو، ومحتجزة عدداً كبيراً من الأسرى العسكريين، وبينهم من أصحاب الرتب العالية.
في الشكل، لوجستياً ثمة تشابه كبير، في الإستراتيجية والتخطيط والتكتيك بين حرب أكتوبر الفلسطينية، وسابقتها العربية، من حيث الإعداد والتدريب، مع التركيز على إعتماد عنصر المفاجأة المباغتة، وتوقيت يوم السبت بالذات، وحجم الهجوم البري غير المتوقع، مع كثافة نارية في قصف مواقع العدو، لإرباكه وإنزال أكبر الخسائر في صفوفه، وتأخير رده على الضربة الأولى.
أشاع سقوط المستوطنات الواحدة تلو الأخرى في جوار غزة، موجات من الهلع والذعر، ليس فقط بين المستوطنين، الذين فرّوا في العراء لا يلوون على شيء، واختبأ بعضهم في حاويات القمامة، بل وأيضا في كثير من المناطق في تل أبيب وجوارها، بعدما وصل القصف الفلسطيني إلى مبنى مطار بن غوريون، وعطّل الملاحة فيه، وبدا للإسرائيليين وكأنهم معزولون عن العالم.
أما على الصعيد الرسمي، فقد مرت ساعات ثقيلة في ماكينة السلطة الإسرائيلية، قبل أن يتمكن نتانياهو من الظهور ليعلن أن دولته في حالة حرب، ويعترف بهذا «اليوم الأسود»، الذي ضرب الغطرسة الإسرائيلية المتمادية، ووضع حداً للإنتهاكات المتكررة للمسجد الأقصى من أزلام بن غفير المتطرفين، وذلك بحماية حراب الجيش الإسرائيلي.
كما رد على عمليات القتل والتنكيل بالشباب الفلسطيني في مخيمات الضفة، التي تمارسها القوات الصهيونية، متسلحة بفائض القوة ضد المدنيين العزَّل في جنين وأريحا ومدن الضفة الأخرى.
أما في المضمون، فقد أعاد «طوفان الأقصى» القضية الفلسطينية إلى مكانتها الأساسية، ووضعها في الإطار الصحيح، لأي عملية سلام يتم التداول بها في المنطقة، بعدما خطفت الجهود الأميركية للتطبيع بين العرب والكيان الصهيوني الإهتمام بالقرارات والحلول الدولية التي كانت مطروحة في السنوات الأخيرة، وفي مقدمتها حل الدولتين، والمبادرة السعودية للسلام التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام ٢٠٠٢.
وإذا كان من المبكر الحديث عن النتائج السياسية لحرب تشرين الفلسطينية، إلا أن ثمة إحتمالين لا بد من أخذهما بعين الإعتبار:
١ـ مدى أمكانية أن تكون هذه الحرب مدخلاً لعملية سلام جدية برعاية أميركية وعربية، على أساس حل الدولتين، الذي نادت به الإدارات الأميركية المتعاقبة في العقدين الأخيرين، وأعلن بايدن إلتزام واشنطن به، في أكثر من مناسبة، خاصة خلال زيارته للرياض.
طبعاً المسألة لا يمكن أن تحصل بكبسة زر، ولكنها تكون بداية مسار جديد لإنهاء مرحلة الحروب في المنطقة. ويكفي أن نشير،في هذه العجالة أن المفاوضات المصرية ــ الإسرائيلية إستغرقت سنوات قبل أن تتمكن مصر من إسترجاع سيناء أولاً، ثم طابا لاحقاً، وبعد الذهاب إلى مؤسسات التحكيم الدولية.
٢ــ إحتمال أن تؤدي هذه العملية إلى فرملة عمليات التطبيع، أو تجميد ما تم منها على الأقل، لأن تداعيات هذه الحرب لن تقف عند حدود فلسطين، بل ستصل إلى فضاء المنطقة، ولا يجوز ان تُترك إيران وحدها، وحلفاؤها في محور الممانعة، في توظيف نتائج هذه الحرب وفق مصالحها الإستراتيجية، بحجة دعمها اللامحدود لحركة حماس.
وكانت السعودية واضحة في تأكيد تمسُّكها بحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، من خلال المقابلة التلفزيونية الأخيرة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي شدد على موقف بلاده المؤيد لحل الدولتين، وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، وذلك كخطوة أساسية لا بد منها للتطبيع مع تل أبيب.
وبإنتظار جلاء دخان القصف والمعارك في غزة وحولها، ثمة نقاط لا بد من التأكيد عليها، في مقدمتها أن حماس ربحت « طوفان الأقصى»، مهما كانت تضحياتها. وأن حكومة نتانياهو إنهزمت في المعركة منذ الساعات الأولى «لليوم الأسود». وأن الصدمة الجديدة أثبتت للشتات الصهيوني إنهيار أكذوبة «أرض الميعاد»، وأن العودة من حيث أتووا أصبحت إحتمالاً أكثر واقعية. وأن سياسة القتل والتنكيل ضد الشعب الفلسطيني، تزيده تمسكاً بأرضه. وأن التفوُّق العسكري التقليدي لجيش الإحتلال تتلاشى مفاعيله يوماً بعد يوم، بفعل التكنولوجيات المتطورة، في الأرض والجو والبحر، التي أصبحت بيد المقاومين الفلسطينيين.
«طوفان الأقصى» أغرق الدولة الصهيونية بالتهديد «الأقصى»، وحاصرها بطوق من المخاطر غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي ــ الإسرائيلي.
«حرب تشرين» الفلسطينية وضعت تل أبيب أمام خيارين أحلاهما مرٌّ بالنسبة للإسرائيليين: إما الذهاب إلى تسوية تاريخية مع الفلسطينيين على أساس حل الدولتين. أو الإستغراق في المواجهات الدموية، وتعطيل مفعول التطبيع مع بعض الدول العربية.